فضاءات مكانية تعبيرية ومنصات تعبوية للاحتجاجات السياسية
فجأة وقفت سيارات هنا. وإلى جانب السيارات اللامعة، كانت رسومات الغرافيتي لفناني الشوارع على الجدران لاتزال تبدو للعيان. فالنبض المبدع لمدينة الدار البيضاء كان مشعاً في هذا المكان. والحفلات الموسيقية والمعارض وعروض الرقص التي أقيمت في مصنع الثقافة بـ"المسالخ القديمة" (الباطوار)، شرق مدينة الدار البيضاء الساحلية، جذبت إليها الشباب. ولكن الآن ها هم موظفو الدولة وقد ركنوا سياراتهم الواحدة جنب الأخرى في ذلك المكان.
تلك السيارات التي ظهرت بشكل مفاجئ شهر فبراير/ شباط من عام 2013، كانت محاولة من مجلس المدينة لخلق واقع جديد في أرضية مسلخ سابق متنازع عليها، واستعادة السيطرة عليها من الفنانين (لتحويلها إلى موقف سيارات). ومع ذلك، فالفنانون لم يستسلموا، وقاموا بتعبئة أنصارهم عبر فيسبوك وتويتر والمدونات، للدفاع عن "مصنعهم الثقافي"، وللتمسك بحقهم في المطالبة بذلك الفضاء المكاني.
المدن الكبرى كمركز للاحتجاجات
وفي مدينة اسطنبول، انطلقت شرارة الاحتجاجات ضد حكومة إردوغان في مكان يبدو للوهلة الأولى قليل الأهمية، وهو "حديقة غيزي". وفي دولة البحرين هدم أصحاب القرار عام 2011 نصباً تذكارياً يصل علوه إلى 90 متراً وسط دوار اللؤلؤة، بعد أن أصبح مركز دوار السيارات الذي كان فيه النصب التذكاري، رمزاً للانتفاضة.
وقد أصبحت مثل هذه الفضاءات المكانية في صلب اهتمام مشروع بحث علمي لمركز الدراسات الشرقية الحديثة CMO في برلين. وبشكل أدق يهتم هذا المشروع بأهمية الفضاءات المكانية بالنسبة للحركات الاحتجاجية وللمشاركة السياسية. فالفضاء المكاني، وكما هو مؤكد في مجال العلوم الاجتماعية منذ ظهور نظرية "المنعطف المكاني" spatial turn في الثمانينيات من القرن الماضي، لا يدل فقط على الحجم الجغرافي، بل أيضاً على التفاعلات المستمرة بين العلاقات الاجتماعية والممارسات. وبحسب سارة يوركيفيتش منسقة المشروع، فإن "الفضاءات تحظى باهتمام ضعيف".
أماكن التعبئة
لكن هذا الوضع من شأنه أن يتغير الآن. إذ أطلق الباحثون على مشروعهم العلمي الذي ينتظر أن يستغرق ثلاثة أعوام، عنوان "فضاءات المشاركة، طبوغرافية التغيير السياسي والاجتماعي في المغرب، ومصر، وفلسطين". وحصل هذا المشروع على دعم مالي بقيمة 400 ألف يورو من طرف مؤسسة فولكسفاغن (الألمانية).
وفي محور المشروع يُطرح السؤال: لماذا تطورت بعض الفضاءات الخاصة في سياقات معينة إلى "أماكن للتعبئة". فـ"في المغرب يمكن أن يكون ذلك الفضاء مكاناً كمصنع الثقافة"، على حد قول سارة يوركيفيتش، "بينما في مصر أو فلسطين يمكن أن يبرز مركز للشباب أو مقهى كفضاء للتعبئة".
ويريد ما مجموعه أربعة عشر باحثاً القيام بأبحاث تشمل مختلف مجموعة الناشطين وعلاقتها بالفضاء. وتتخذ دراساتهم كأساس لها تعريفاً شاملاً للمشاركة السياسية، يربطونه ببحث غني حول الاحتجاجات في العالم العربي، مستوحى من علم الاجتماع. فالخبراء لم يعودوا يعتبرون الانتخابات أو بشكل صريح الالتزام السياسي فقط كمشاركة سياسية. فإطلاق اللحية في حد ذاته يراه الباحثون في مجال المشاركة السياسية ـ تحت ظروف معينة، مثلاً في ظل المؤسسة العسكرية التي استعادت سلطتها في مصر ـ سلوكاً احتجاجياً ونوعاً من المشاركة السياسية.
بالنسبة لرندة أبو بكر التي تشرف على مشروع مركز الدراسات الشرقية الحديثة CMO في مصر، فإن المشاركة السياسية هي سعي الأفراد وراء التمثيل. و"في غضون ذلك (السعي) لا يجب عليهم بالضرورة تشكيل حركة جماعية" على حد قولها. وتكرس رندة أبو بكر مع فريق عملها البحث حول ظاهرة القصص السياسية المصورة التي يبدعها مستخدمو الإنترنت بأنفسهم وينشرونها في الفضاء الافتراضي لشبكة المعلومات العالمية. وبذلك يمنحون لأنفسهم صوتاً (للتعبير)، دون أن يكونوا بالضرورة جزءاً من جماعة ما.
خصخصة غير رسمية للفضاء التعبيري
وكان أنصار محمد مرسي يقومون بمراقبة الدخول عبر الطرق المؤدية إلى نقطة تقاطع الطرق (التي شهدت الاعتصام). وتبرهن رندة أبو بكر أن هذه الخصخصة غير الرسمية للفضاء التعبيري خدمت المواجهة مع الدولة. فالمخيم ـ بحسب رغدة أبو بكر ـ كان محاولة لإعادة تكرار ديناميكيات ميدان التحرير وبصبغة إسلامية. وكما هو حال مصنع الثقافة "الباطوار" (المسالخ القديمة) في مدينة الدار البيضاء، فالمتظاهرون حاولوا الاستيلاء على فضاء مدني، وسحب السيطرة على المبنى من الدولة.
وإلى حدود اليوم لم يتحول مصنع الثقافة بالدار البيضاء إلى موقف للسيارات. ففي شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2014، نظم الفنانون والنشطاء تظاهرة "المسلخ الصيفي 2014 ". وأكد المنظمون أن الأمر لا يتعلق بمهرجان بل بحدث ثقافي تشاركي كان مفتوحاً أمام الجميع. كما تم استدعاء مختلف التخصصات الإبداعية من باب التجريب. وشهد الحدث الثقافي ورشات عمل، وعروض، وحوارات جماعية، وحفلات موسيقية، أو جولات في المدينة. ففضاء التجريب كان متوفراً، والناس (المشاركون) جاؤوا بالأفكار.
يانيس هاغمان
ترجمة: عبد الرحمان عمار
حقوق النشر: موقع قنطرة 2015