مزايدات على ظهر المهاجرين في بازار فرنسا السياسي
لُغم جديد انفجر في وجه حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محدثا رجة كبيرة في المشهد السياسي بفرنسا بعد رفض الجمعية الوطنية بأغلبية 270 صوتا مقابل 265 صوتا -من مشارب سياسية متنوعة (اليسار واليمين واليمين المتطرف)- الشروع في مناقشة مشروع قانون "السيطرة على الهجرة وتحسين الاندماج"، وهو ما شكّل انتكاسة كبيرة للحكومة التي كانت تطمح لإرضاء 72% من الفرنسيين ممن يرَون -وفق أحدث استطلاعات الرأي- أن تحسين إجراءات ضبط الهجرة أمر ضروري.
مؤشر حفَّزَ الرئيس الفرنسي لحثِ حكومته على طرح مشروع القانون بعد أكثر من تأجيل -في أغسطس/ آب 2020 وفي مارس/ آذار 2023- لافتقاده لأغلبية مريحة تضمن التصويت لصالحه داخل البرلمان، فجاء "قانون دارمانان" -نسبةً إلى وزير الداخلية جيرالد دارمانان الذي حاول إرضاء جميع الأطراف لكسب أصواتهم- دون أن ينجح في تحقيق مقصده، وهو ما اضطرَّه -اعتبارا للمسؤولية السياسية- إلى تقديم استقالته لكن الرئيس سارع إلى رفضها لكون القانون اختباراً حاسماً ليس للحكومة فقط وإنما للرئيس إيمانويل ماكرون نفسه.
أزمة سياسية حولت الأغلبية النسبية لإيمانويل ماكرون بالجمعية الوطنية إلى أقلية عاجزة، وهذا يجعل إدارة المرحلة المقبلة -بـ"حكومة بلا أغلبية"- صعبا في ظل توازن القوى الحالي داخل البرلمان، لكن مساعي الرئيس لتخفيف من وقع ما جرى بدت واضحا -بالإمعان في تجاهله- وذلك بالتعليق على رفض المشروع حتى قبل دراسته بالقول إن "الغالبية التي رفضت نص المشروع هي غالبية تريد شل البلاد".
من جانبها نددت رئيسة الحكومة إليزابيث بورن بالإجماع القائم بين قوى اليسار واليمين ضد المشروع، معتبرة أنه "انقلاب سياسي بلا مستقبل"، فيما تساءل الوزير صاحب المشروع باستغراب: "مَن يخشى النقاش؟ أولئك الذين سيتفقون ضمن تحالف غير طبيعي، كي لا يرى الفرنسيون أن الأمور تتقدم".
قانون جديد يجُبّ قيم التنوير الفرنسي
رفض باريس التوقيع على الاتفاقية الدولية لحماية حقوق المهاجرين وأسرهم سمح لها بطرح قانون متشدد وهو عبارة عن تقنين للعنصرية وقمع لحقوق المهاجرين، زاده مجلس الشيوخ بتعديلاته وإضافاته دون تسجيل أي اعتراض من الحكومة غلوا وإمعانا في التشدد، لدرجة وصف هذه النسخة من مشروع القانون بـ"النسخة اليمينية". فأضاف مثلا إلغاء نظام المساعدة الطبية المجانية للأشخاص الذين في وضع غير نظامي وسمح -من باب الاستثناء- بالمساعدة الصحية في أوضاع طارئة مع تقليص حالاتها (مراقبة الحمل والتلقيح والطب الوقائي...).
واقترح الشيوخ أيضا إلغاء ما يُعرف بمبدأ "حق الأرض" -الذي يخول أبناء المهاجرين الذين وُلدوا فوق التراب الفرنسي من أبوين أجنبيين- الحصول على الجنسية الفرنسية تلقائياً بمجرد بلوغهم سن الرشد، وفق مقتضيات القانون الجديد يصير لزاما على هؤلاء -حين تتراوح أعمارهم ما بين 16 و18 عاما- التقدم بطلب الحصول على الجنسية الفرنسية، وبذلك يصبح المفهوم الجمهوري للجنسية -القائم على التنشئة الاجتماعية وليس على البيانات العرقية- جزءاً من التاريخ السياسي والاجتماعي لفرنسا.
فضلا عن ذلك خفَّف مشروع القانون من الإجراءات والقيود في مساطر الترحيل، ووسع نطاق تطبيقها بشكل غير مسبوق، فأضحى هذا الإجراء يلاحق القاصرين ابتداء من سن 13 عاما فور دخولهم الأراضي الفرنسية. كما يهدد الآباء والأمهات المهاجرين -الذين يرتكبون أعمال عنف وجرائم وصدرت بحقهم إدانة بعقوبات تفوق مدتها خمس سنوات- أو متى ما تعلق الأمر بقضايا العنف الأسري. مقتضيات اعتبر وزير الداخلية أن إعمالها سيشكل سابقة بين دول الاتحاد الأوروبي، كما يسمح لفرنسا بطرد زهاء 4000 شخص سنويا.
لم تستثنِ بنود القانون أي طرف، فحتى الطلاب الأجانب (350 ألف طالب أجنبي) -أحد أدوات الدبلوماسية الثقافية التي استعانت بها باريس لإشاعة الفرنكوفونية في العالم- شملهم التشديد بإقرار "وديعة العودة" للحصول على بطاقة الإقامة، فقد بات لزاما على هؤلاء دفع وديعة مالية -تبقى جامدة طوال مدة دراستهم- تضاف إلى التكاليف الباهظة الذي فرضها برنامج "مرحبا في فرنسا"، مع حكومة إدوارد فيليب عام 2019 التي ضاعف رسوم التسجيل حتى وصلت 2770 يورو للأجانب مقابل 170 للفرنسيين. فضلا عن ذلك على الطالب الأجنبي تقديم أدلة -في شكل وثائق سنوية- تشهد على طبيعية دراستهم وتثبت حقيقتها وجديتها.
لا مستقبل لفرنسا من دون مهاجرين
يعكس القانون الجديد تحولا عاما نحو اليمين في النقاش السياسي، ويزيد تفضيل الحكومة خيار لجنة مشتركة (7+7) -من بين خيارات أخرى أمامها كسحب النص أو الإحالة لقراءة ثانية على مجلس الشيوخ- من فرص تطرف النسخة المقبلة من القانون بالنظر إلى تركيبة السياسية التي تشكل اللجنة المشتركة (5 أعضاء من الأغلبية الحكومية و4 أعضاء من الجمهورين وعضوين اشتراكيين وعضو واحد عن كل من "الوسط" و"التجمع الوطني" و"فرنسا غير الخاضعة").
كما يعكس شعورا عاما متناميا في الأوساط الفرنسية ينظر إلى المهاجرين باعتبارهم أصل الداء وسبب كل الأزمات التي تعصف بالبلد، فالهجرة لدى معظم الساسة الفرنسيين حائط قصير يسهل القفز عليه دون أدنى اعتراض أو مقاومة من الفرقاء السياسيين أو الإعلام. وينسى أو بالأحرى يتناسى هؤلاء أفضال المهاجرين -بأجيالهم المتعاقبة- على المجتمع والدولة الفرنسيين. وسبق لوزير العمل الفرنسي أوليفيه دوسبوت أن اعترف بذلك علانية -في لقاء إذاعي- حين أكد أن "بعض المهن كادت تختفي لولا وجود العمال المهاجرين الذين يشتغلون فيها حاليا".
حاليا يعيش في فرنسا -وفق معطيات المعهد الوطني للإحصاء برسم سنة 2022- حوالي 7 ملايين مهاجر وهو رقم يعادل نسبة 10,3% من إجمالي السكان في البلد ونجح 35% من هؤلاء في الحصول على الجنسية الفرنسية. أما عن الهجرة غير النظامية، فالسلطات الفرنسية تتحدث رقم يتراوح ما بين 600 ألف إلى 700 ألف مهاجر غير شرعيين يتوافدون كل سنة على الأراضي الفرنسية، وهو ما يشكل -بحسب سردية اليمين المتطرف وأنصاره- تهديدا للأمن والاقتصاد والثقافة والهوية الوطنية الفرنسية.
لكن الحقيقة خلاف ذلك تماما، فالبلد -استناداً إلى تحقيق مركز التوظيف الحكومي- بحاجة ماسة إلى اليد العاملة لا سميا في المهن التي يرفضها الفرنسيون (النوادل، الطبخ، الزراعة، التنظيف، الأعمال المنزلية، التمريض...). وحاليا يساهم قرابة نصف مليون عامل بدون وثائق قانونية في بناء الاقتصاد الوطني الفرنسي. وما تضمين الحكومة القانون -رغم حساسيتها المفرطة تجاه المهاجرين- مقتضى بموجب المادة 3 يمنح إقامة خاصة تحت مسمى "العمل في المهن الناقصة" أي تلك التي تحتاج فيها البلاد إلى يد عامل.
جعجعة بلا طحين، فالقانون -أياً تكُنْ درجة تشدده- يبقى معطلاً في غياب آليات فعالة تسمح بتنزيل مقتضياته لا سميا في قضية شائكة مثل الهجرة حيث تتداخل المتغيرات وتقاطع الإرادات المتضادة. لكل ذلك يبدو السجال الدائر في الأوساط السياسية الفرنسية شوطا ثانيا في معركة تثبيت الماكرونية، بعد شوط أول حول التقاعد اقتضى إقراره الاستعانة بالمادة 49.3 من الدستور. يكفي دليلا على هذا التذكير بأن الصراع يدور حول القانون رقم 30 بشأن الهجرة في فرنسا، منذ عام 1980 وهذا يعادل إصدار قانون هجرة جديد كل ثلاث سنوات دون أن يتغير الشيء الكثير في ملف الهجرة على أرض الواقع.
محمد طيفوري
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
Qantara.de/ar