ابن بطوطة- هل هو مستكشف العالم أم مزيف لأدب الرحلة؟
عرض ابن بطوطة في تقاريره ومخطوطاته صوراً رائعة وتفاصيل ساحرة لجزء كبير من العالم في القرن الرابع عشر الميلادي. وقد ذُكِرَت في هذه المخطوطات تقريباً جميع البلدان الإسلامية وبعض البلدان غير الإسلامية مثل الصين وجافا. وقد سرد الرحالة المغربي ابن بطوطة مغامراته بطريقة حيوية عالية ووصف الأماكن التي زارها وصفاً بليغاً، إذ صور ما شاهده من الحيوان والنبات بلغة جذابة.
وذكر بأنه لم يلتق فقط مع مؤمنين وكرماء الله وعلماء الدين والعلم، بل اجتمع إلى أغلب حكام وسلاطين عصره وزودهم بنصائحه وخدماته وقابلوه بالكرم والشكر والامتنان. قضى ابن بطوطة قرابة ثلاثين عاماً في رحلاته، حيث انطلق من بلدته طنجة عام 1325 وعاد أخيراً عام 1355 إلى وطنه المغرب. وقد تم تدوين نص الرحلة عام 1355 بأمر من السلطان المغربي أبو عنان من قِبَل الكاتب الأندلسي أبو عبد الله محمد بن الجوزي على غرار الحكايات التي رواها الرحالة شفوياً.
وعلى الرغم من أنّ بعض علماء الجغرافيا العرب قد عرفوا من قبل البلدان والأماكن التي زارها الرحالة ابن بطوطة وأن بعضهم زود رسوماته ومخططاته بنصوص ما، وحاولوا فيها ذكر ما شاهده، إلى أنّ هذه النصوص تبقى جافة وينقصها الحيوية والسحر اللذان يميزان تقارير ابن بطوطة التي تبدو عفوية وشخصية وبطريقة ما تحتوي روح الحداثة، لدرجة أنّ القارئ الشرقي والقارئ الغربي على حد سواء في عصرنا هذا ينبهران بها.
الترجمات الألمانية وابن بطوطة
ورغم تقدير الباحثين الأوروبيين لكِتابَ الرحلات باعتباره وثيقة تاريخية مهمة، كان من الغرابة أن كتاب رحلات ابن بطوطة لم يكتسب شعبية في الغرب إلا في مرحلة متأخرة. ففي القرن التاسع عشر حينما ازداد التواصل مع أوروبا وتم تقديم الكتاب هناك ليترجم إلى الإنجليزية والفرنسية ولغات أوروبية أخرى بدأت تظهر الاهتمامات به وتقدم البحوث حوله. واليوم نستطيع أن نقول إن ابن بطوطة قد نال التقدير الذي يستحقه في عالم الاستكشاف. لقد ترجم مخطوط رحلة ابن بطوطة للمرة الأولى إلى الألمانية عام 1911 و أنجز الترجمة آنذاك الباحث الألماني هانز فون مزيك، ورغم أن هذه الترجمة جيدة لكنها جزئية وتقتصر فقط على رحلة ابن بطوطة إلى الهند والبلدان الشرقية منه. وصدرت حديثاً في ميونخ (أكتوبر 2010 ) ترجمة ألمانية ثانية للرحلة. هذه الترجمة الجديدة تعتمد على مخطوط رحلة أبن بطوطة الذي وضعه العلامة الحلبي محمد بن فتح الله البيلوني في القرن السابع عشر والتي أنجزها الباحث في العلوم الإسلامية الدكتور رالف إلغَر بشكل ممتاز وأرفقها بتعليق حول الرحلة وحول مصداقية النص وهي الترجمة الأولى من نوعها التي تقدم نص رحلة ابن بطوطة بشكل شبه كامل للقارئ الألماني.
فرضيات بحثية
تستند فرضية الباحث الألماني رالف إلغَر على فرضيات سابقيه من الباحثين الأوربيين مثل المستشرق استيفان يرازيموس الذي وضع تعليقات العلامة العربي ابن خلدون وغيره ممن عاصر الرحالة ابن بطوطة فيما يتعلق برواياته تحت المجهر أو كما يقال في ألمانيا وضعها "على ميزان الذهب ". وحسب ما رواه ابن خلدون الذي كان معاصراً لابن بطوطة والتقى به في إحدى جلسات السلطان ابن عنان في المغرب وكما جاء أيضاُ في تعليق الباحث الألماني إلغًر: "روى ابن بطوطة قصصاً كثيرةً، وكان الناس تهمس في بلاط السلطان، لا بد أنه يكذب". وضع الباحث فرضيته، وبدأ بدراسة رحلة ابن بطوطة دراسة منهجية. بدأ يتقصى ما إذا كان ابن بطوطة مستكشفاً للعالم أم أنه كان يبالغ في حكاياته ويؤلف ما يمليه عليه خياله الواسع بعدما قرأ مخطوطات في أدب الرحلة وفي العلوم الجغرافية. قارن الباحث ما كتبه سابقو الرحالة ابن بطوطة ومعاصروه من الشرق والغرب على حد سواء في علم وأدب الجغرافية وخاصة فيما يتعلق بالمناطق التي كتب عنها الرحالة. و
يوضح إلغًر في تعليقه أن إظهار صفات التقوى عند الرحالة ابن بطوطة في مخطوط ابن الجوزي لعب دوراً رئيسياً في التشكيك بما آل إليه كرحالة عالمي. وبالتالي تكون الطريقة التي تحدث بها ابن بطوطة في بعض الأحيان معارضة لسمات الرحالة ولهدف الرحلة من الجانب الدنيوي، وهذا الجانب الذي يشكل العنصر الأساسي في صياغة تقرير أي رحلة. فابن بطوطة يركز على خدماته وخاصة أنه كمسلم تقي وعلى أعماله النبيلة مقابل الشعوب الإسلامية التي قابلها وعلى ما قدمه إليها من مساعدات ونصائح. فهو أراد السفر فقط إلى البلدان المسلمة ولكن سفره إلى الهند والصين كان معطوفاً على وجود شعوب مسلمة هناك، رغم وجود الكفار أيضاً، حسب تعليقه، وتراه لم يتوجه في رحلاته إلى أوروبا لسبب أنه لا توجد هناك دوافع مما يدعو أيّ مسلم للسفر إليها. ويستند رالف إلغَر في تحليله هذا على المستشرق استيفان يرازيموس الذي كتب: "أن هذه الاعتبارات تشكك من جديد في نيًته كرحالة عالمي أراد أن يستكشف العالم من أجل العلم. وقد تؤكد مرامه في الوصول إلى مراكز عالية في خدمة سلطان المغرب آنذاك". وحسب الباحث الألماني إلغَر تشير الأدلة إلى أن ابن بطوطة حاول عدة مرات تسليط الضوء على مهاراته في قصص رحلاته أمام السلطان، وإظهار العالم الذي زاره، رغم جماليته، في فوضى العلم والتقوى ولكنه رسم هذا العالم في كمالية عالية بعدما تركه وعاد إلى بلاده. وهذا يعود إلى كفاءته حين يستشيره الملوك والحكام في تسيير البلاد والشعوب.
ابن بطوطة وابن الجوزي
أولاً: إذا كان ابن بطوطة هو من روى على السلطان قصص أسفاره ومغامراته، فيكون قد روى على مسامع السلطان ما أراده الأخير أن يسمعه من علامة مسلم تقي، وما أراد الرحالة أن يلقيه على مسامع السلطان بهدف المكاسب الشخصية. ولكن هناك فرضية تقول إنه بعدما أملى ابن بطوطة حكاياته على ابن الجوزي واصفاً له ما رآه في أسفاره، ربما كان ابن الجوزي قد أضاف للكتاب بين الحين والآخر شيئاً من العنصر القصصي بهدف التشويق وسهولة التواصل مع القراء، أو أنه أضاف معلومات عن جغرافيات البلاد، التي يكون قد زارها ابن بطوطة، ناقلاً إياها من كتب أخرى. ثانياً: جاء في مقدمة ابن الجوزي أنه التقى ابن بطوطة في غرناطة وتحدث إليه.
وهناك روى ابن بطوطة قصص رحلاته المدهشة عليه في حين كان ابن الجوزي يدون الملاحظات وبعض النقاط المهمة قبل أن يسمع بها السلطان المغربي آنذاك. إذا كان هذا الأمر صحيحاً، فيمكن الميل إلى الاعتقاد بأن ابن الجوزي وضع نص الرحلة فيما بعد معتمداً على ملاحظاته وعلى منابع أدبية وجغرافية أخرى، دون أن يأخذ الأمر من السلطان حسب الرواية المعروفة. وبما أنه كان مطّلعاً على نص ماركو بولو، فإنّ هذا النص خدمه في بناء الرحلة كما هي معروفة الآن. وربما جاءته الفكرة فيما بعد بأن يعرض النص على السلطان آملاً أيضاً أن يمن السلطان عليه بشيء من الثراء.
مقارنات بين نص الجوزي لرحلة ابن بطوطة ونصوص سابقيه ومعاصريه
لقد ذُكِرت في مقدمة الباحث الألماني إلغَر مقارنات بين نص ابن بطوطة وعدة نصوص لكتاب ورحالة مختلفين سواء كانوا من الشرق مثل "ابن جُبَير" و"الأبدري" و"العُمًري" وإلخ، أم من الغرب مثل رجل الدين الفرانسيسكاني "يوهانس دي مارنوللي" أم "ماركو بولو" الذي أملى ما شاهده في رحلاته على كاتب يدعى "روستيشيللي دي بيزا". مثلما فعل ابن بطوطة فيما بعد وأملى مغامراته على ابن الجوزي. هنا يضعنا الباحث إلغَر أمام عدة مقطوعات من كتاب الرحّالة ابن بطوطة التي تتماثل في الشكل والمعنى والحرف أحياناً مع بعض مقطوعات هؤلاء الكتاب التي ذُكرت أسماؤهم هنا. وأحياناً يكون النص في معناه متساوٍياً ولكنه يختلف في طريقة السرد.
ويكتب إلغَر، أن مخطوط ابن بطوطة مفصّل ويحتوي على شروح موسعة أكثر من مخطوط الرحالة ماركو بولو، وهنا ربما يكون الرحالة العربي قد نضح من منابع أدبية وجغرافية أفضل مما استخدم من قبله الرحالة ورجل الأعمال ابن البندقية ماركو بولو. " وحسب إلغَر هناك تماثل في النص بين ابن بطوطة وماركو بولو في سرد واقعة أو قصة أو معلومة عن إحدى الشعوب التي قابلاها ولكن كليهما يسرد هذه الواقعة عن مكان و شعب آخر. وفي أحيان أخرى تتشابه الأمكنة في نصيهما ولكن بأسماء مختلفة بعض الشيء من حيث الكتابة واللفظ. مثال على ذلك مقطوعات من رحلة الصين والهند، فهناك تشابه كبير في الوصف وطريقة السرد. وأخيراً يكتب الباحث الألماني إلغًر، بأن تقرير ابن بطوطة متشابه في كثير من النواحي مع قصة سندباد ورغم ذلك يميل الكثير من القراء في العالم إلى تصديق مغامرات ابن بطوطة ويعتبرونها واقعاً من القصص الجغرافية ولكنهم يضعون مغامرات سندباد في خانة القصة الأسطورية. ويؤكد إلغَر: "أن هذا ليس عدلاً".
ابن بطوطة ....المستكشف العظيم
يُنظر إلى ابن بطوطة بأنه رجل استثنائي وعبقري في سرد الأدبيات، خرج في مغامراته إلى أراض بعيدة مجهولة واستكشف في أسفاره أرجاءً مثيرةً من العالم ليسرد لنا قصة رائعة يعكس من خلالها ثقافات شعوب عديدة في عالم عصره. ونظراً إلى ما جاء في مخطوط ابن بطوطة الشهير، يعتبره القارئان الغربي و الشرقي على حد سواء بأنه رجل بعيون مفتوحة على العالم و يقارنه بالرحالة الأوروبيين الكبار مثل ماركو بولو أو بالمستكشفين من القرن التاسع عشر. وابن بطوطة هو مثال على عظمة الاستكشاف العربي في الماضي، وهو كشخصية لا تمثل فقط بلدته طنجة أو بلده المغرب وإنما بصفة عامة يمثل العالم العربي والإسلامي في أدب الرحلة العالمي ويمكن أن يفخر به العالم العربي والإسلامي لما قدم للبشرية من معلومات مهمة حول العالم . ولكن ورغم الإعجاب العالمي بشخصية ابن بطوطة وبما قدمه من نص أدبي جميل، لا ينفي هذا إمكانية طرح الفرضية التي تقول أنه ربما قد تخيَل قصص رحلاته أو نقلها عن لسان آخرين مستنداً إلى أدبيات سبقته ومعلومات جمعها دون أن ينوّه إليها أو إلى كتّابها.
فؤاد آل عواد
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010 .