عالم ما بعد كورونا...رؤى استشرافية لنخبة من المفكرين
في قراءة مبكرة سبقت جائحة كورونا بأكثر من نصف قرن حللت المفكرة الألمانية الأمريكية حنة آرندت في كتابها "الوضع الانساني" الصادر عام 1958 علاقة الإنسان بمحيط الآخرين من خلال جهده وكدحه وعمله، وذهبت إلى التمييز بين هذه الأفعال الثلاثة التي يرى كثيرون فيها شيئاً واحداً.
وكشفت أن الكدح هو ما نفعله لنبقى على قيد الحياة، فنحن نكدح لنأكل ونحافظ على سلامة أبداننا ولنحافظ على سقوف تعلو رؤوسنا، ولنحافظ على استمرار انتاج النوع البشري. ووفق هذا المعنى فإنّ كل الحيوانات تكد وتكدح – كما يفعل العبيد والنساء خلسة خلف أبواب مغلقة. لا توجد خصوصية تميز الكدح سوى حقيقة أننا دون هذا الكدح سوف نفنى ونندثر.
في الجانب الآخر تفلسف آرندت العمل باعتباره "المعنى الجمعي لما نفعله"، فحين نعمل لإنتاج شيء ما فنحن في الحقيقة نضيف شيئاً قد يخلد في العالم، طاولة على سبيل المثال، أو بيتاً أو كتاباً أو سيارة أو سجادة، وكل ذلك في مجال الكدح للمحافظة على استمرارية الحياة.
وبهذا المعنى ميزت حانا آرندت بين العمل الذي يفاقم الاستهلاك، وبين الكدح مؤكدة على ضرورة أن نفرّق بين الإثنين معتبرة أن غياب الفارق بين المفهومين يربك المفاهيم، لاسيما أن هذا هو العنصر الثالث الذي تحدثت عنه حنا آرندت في معادلتها ثلاثية الأطراف، لأنه لولا القيمة المعنوية التي يمنحنا إياها العمل لما توفرت أرضية مشتركة على المستوى السياسي للجهد.
هذا الحديث المسهب عن قيمة العمل باعتباره جهداً مشتركاً يصب في الناتج البشري الآني والتاريخي، تحتمه اليوم حالة وقوفنا أمام مرمى سهام جائحة كورونا، فقد أفلس كثير من الناس عبر العالم وفقدوا مصادر رزقهم وعملهم.
هابرماس: يتعين علينا أن نتصرف واضعين نصب أعيننا محدودية معرفتنا
اعتبر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، أحد أهم فلاسفة العصر المدافعين عن أولوية العقلانية وعن قيم الحداثة الديمقراطية، الذي يعتبر نفسه "ابن التربية الديمقراطية المولودة من رحم أحوال النازية"، أن جائحة كورونا تجبرنا أن "نتصرف واضعين نصب أعيننا محدودية معرفتنا".كما جاء في قراءة نشرت في موقع قنطرة وفكك فيها عصر ما بعد كورونا بالقول:
"ألاحظ أن الوباء يفرض اليوم، في نفس الوقت وعلى الجميع، تحدياً فكرياً كان، حتى الآن، من اختصاص الخبراء: يتعين علينا أن نتصرف واضعين نصب أعيننا محدودية معرفتنا. تبيّن لجميع المواطنين في هذه الأيام كيف يجب على حكوماتهم اتخاذ قرارات واضعة نصب عينيها محدودية معرفة علماء الفيروسات الذين يقدمون لها المشورة. نادراً ما تم فك طلاسم مشهد العمل السياسي المنغمس في عدم اليقين بشكل قطعي. وفيما يبدو سيكون لهذه التجربة غير العادية في أدنى الحالات أثرها على الوعي العام".
وبهذا السياق يقول المفكر يوفال نوح هراري في تصور يبدو أكثر تفاؤلاً وأقرب إلى الواقع: "في الأشهر القليلة المقبلة، سيعيد الساسة صياغة العالم الذي سيتحول على حالة سائلة ليصبح أكثر طواعية. وبوسعنا أن نختار التعامل مع الأزمة القائمة من خلال التضامن العالمي والتعاون الذي سوف ينتج عنه عالم أكثر اتحاداً وتناغماً. بيد أن بوسعنا أيضا أن نتعامل مع الأزمة من خلال التنافس والانعزال القومي ما سوف يفاقم الأزمة ويمعن في تشظية العالم ويفاقم حالة العداء بين أجزائه. بوسعنا أن نتعامل مع الأزمة من خلال فرض أنظمة سياسية شمولية تراقب الناس، أو بتقوية المواطن في المجتمعات الديمقراطية بما يفرض على الحكومات مزيداً من الشفافية، وسيكون بوسع الحكومات أن تختار انقاذ التعاون القوي على أن تمعن في اضعاف العمل المنظم، أو أنها ستذهب إلى خيار تعزيز سلطاتها في جهد تعاوني كبير يرمي إلى تقوية العمل المنظّم".
[embed:render:embedded:node:39528]
الروائية التركية أليف شفق: هذه بادية نهاية العولمة
وتقترب الروائية البريطانية تركية الأصل أليف شفق من مقاربة المفكر هراري فتقول: "هذه بداية نهاية العولمة، على الأقل بالشكل الذي ألفناه حتى الآن. الاندماج الاقتصادي العولمي، الذي تحقق خلال القرن الماضي كفكرة وتطبيق مقبل على التمزق. إنها لمفارقة كبرى أن نشهد تنامي المشكلات العولمية (في هذه المرحلة)، وبكلمة أخرى، أنه في الوقت الذي نحن فيه أحوج ما نكون إلى التضامن والتعاون العولمي، فإننا سوف نشهد على الضد تياراً ينزع الى العزلة " isolationism" ، وتتعاظم قوته كل لحظة.
وبهذا فأنا أتوقع مزيد من المناطقية " regionalization“، حيث سوف تنزع بلدان كثيرة إلى تشكيل كتل إقليمية ومناطقية للتصدي للكثير من القضايا، فيما سيدعو كثيرون إلى روح جديدة من العالمية " internationalism" وهي نزعة تختلف عن نزعة العولمة الاقتصادية التي سادت القرن الماضي لأنها ستحدد اتجاه العولمة في مجالات الصحة والبيئة. بخلاف ذلك وللأسف، فإنّ هذه اللحظة تمثل فرصة ذهبية لإحياء أنماط القومية الجديدة والقديمة!
وتذهب الكاتبة، التي تمثل روح العولمة بتنوع أصولها وتوجهاتها إلى القول: "خلال وبعد الجائحة سنشهد حصول اضطرابات عميقة أساسية في المجتمع والاقتصاد، ما سيوجد أرضية خصبة للديماغوجيين الشعبويين. لقد شهدنا مشقة عمل الممرضات والممرضين وسائقي سيارات الإسعاف وعمال السوبر ماركت الكبرى والصغرى وعمال خدمات التوصيل "دلفري". وإبان "ملحمة" بريكست، قوبل المهاجرين القادمين من الاتحاد الأوروبي إلى بريطانيا بنوع منظم من سوء التقدير، فيما يشيد الجميع بهم اليوم مؤكدين على جهدهم المميز في الإضافة للمجتمع. على الساسة اليوم أن يفكروا مرتين قبل إطلاق مصطلح "عمالة قليلة التأهيل" أو "عمالة غير ماهرة".
وتمضي البريطانية التركية إلى القول: "خلال هذا الوقت، يسعى رجب طيب أردوغان للاستفادة من الاضطراب الذي يعم العالم، ولن يتردد باستخدام ورقة اللاجئين للمساومة باتجاه تعزيز سلطته الفردية المطلقة".
الناقد الأدبي فخري صالح: تبدو البشرية وكأنها على أهبة قطيعة تاريخية مع ماضيها وحاضرها
من جانبه ينظر الكاتب فخري صالح في مقال نشره بموقع قنطرة الى جانب آخر من الأزمة يمثل تحدياً لجوهر المفهوم الديمقراطي فيكتب: "في الوقت الذي يقبع فيه ما يقارب نصف سكان العالم وراء جدران بيوتهم، وتُقفر الشوارع من سكانها، وتحطُّ الطائرات في مهاجعها، ويكفُّ العالم عن الحركة، تبدو البشرية وكأنها على أهبة قطيعة تاريخية مع ماضيها وحاضرها.
لقد أجبرها فيروس كورونا (حاكم الأرض الجديد كوفيد- 19) على تغيير عاداتها، والتنازل عن حرياتها، وإدارة الظهر لمفهوم الحقوق الأساسية، الذي أشاعه عصر التنوير الأوروبي، وصادقت عليه المبادئ التي وضعتها الأمم المتحدة. فما شهدناه، في إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وأمريكا، وغيرها من الدول، من ترك كبار السن يموتون في بيوت المسنين دون مد يد العون لهم، لأن الأنظمة الصحية هناك شارفت على الانهيار، ومن الصعب توفير أجهزة تنفس لكل المرضى، يشير إلى حقيقة فاجعة - إضافة إلى حقائق عديدة أخرى على رأسها هشاشة الأنظمة الصحية في بلدان العالم الأول، فكيف بالبلدان الفقيرة، أو ما اصطلح على تسميته سابقاً بدول العالم الثالث! - هي قدرة العالم المعاصر على غض البصر عن الالتزام بالمحافظة على حق الحياة بوصفه الحق الأساسي الأول لكل إنسان، مهما كان عرقه أو طبقته أو ديانته، أو معتقده الأيديولوجي؛ والأهم من كل ما سبق، مهما كانت فئته العمرية، فالمسن مثله مثل الشاب يتمتع بحق الحياة وتُعَدَُّ مساعدته للحفاظ على هذا الحق إلزامية.
المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل تكرم الطاعنين في السن
وكرد اعتبار سياسي قامت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في مطلع تموز/ يوليو 2020 بتكريم الطاعنين في السن، الذين واجهوا كما تقول أوقاتا صعبة في وحدتهم خلال الأشهر الأخيرة، بسبب القيود التي فرضت للحد من توسع انتشار وباء كوفيد-19، كما نقلت وكالة الأنباء الأوروبية يورو نيوز.
وتقدمت ميركل خلال خطابها الأسبوعي عبر الفيديو بالشكر إلى كبار السن في بلادها، لقبولهم بالحد الأدنى من التواصل الاجتماعي، قائلة إن أكثر شيء مؤلم هو بالتأكيد عدم التمكن من رؤية الأطفال والأحفاد أسابيع عدة.
وسجلت في ألمانيا 190 ألف حالة إصابة كورونا فيما بلغ عدد الوفيات أكثر من 9 آلاف شخص. وقد حثت ميركل الألمان على المساعدة في حماية كبار السن، من خلال احترام قواعد التباعد الاجتماعي في الأماكن العامة.
من سيقود المبادرة للتصدي لمرحلة ما بعد كورونا؟
أما منظر العلاقات الدولية جوزيف ني، العميد السابق لكلية هارفارد كندي، فلفت الأنظار إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية والصين وهما أول وثاني أكبر اقتصادات العالم، فقد استجابتا إلى جائحة كورونا بالاتكاء على التفسيرات التنافسية قصيرة الأمد معدومة التكاليف، دون الاهتمام بالمؤسسات وميادين التعاون. على القادة أن يعلنوا أهمية "السلطة مع الآخرين" بدلا عن "السلطة على الآخرين"، وعوضاً عن الترويج للبروبغندا التنافسية فإنّ عليهم وضع أطر التعاون المشترك الثنائي ومتعدد الأطراف.
على الولايات المتحدة والصين، ولأسباب تخلقها مصالحهما الخاصة والدوافع الإنسانية أن يعملا سوياً على قيادة قمة العشرين G20 لتوفير تمويل سخي لخطة تضعها الأمم المتحدة للتصدي لوباء كورونا، على نمط خطة مارشال التي كانت منفتحة على كل البلدان. فإذا اخترنا هذا النهج، فإن جائحة كورونا سينتج عنها عالم أفضل، ولكن لو مضينا قدما في تبني النهج القائم حالياً، فإن الفيروس سيفاقم التوجهات القومية الشعبوية القائمة حالياً والت تقود إلى استبداد مطلق في استخدام التكنلوجيا. ربما لم يفت الوقت لاختيار نهج جديد ينهي هذا العالم المصيري (المرعب)، لكن وقت العالم ينفذ بسرعة".
ترجمة وإعداد ملهم الملائكة
حقوق النشر: قنطرة 2020
..............................
طالع أيضا
الإنسانية أو الفناء - وما كورونا سوى "بروفة"!
كيف تسهم الجوائح في تشكيل التاريخ البشري
..............................