وجه بيروت الكوميدي...ما أضيق العيش لولا فسحة ''الضحك''
هنا بيروت:
المشهد الأول: مواطن يركض في غرفة مغلقة. الأفق محدود أمامه. وفي حراكه يتطلع إلى ما وراء الجدار بأمل، كمّن يراقص فراشات الربيع من نافذة صغيرة.
المشهد الثاني: كوميديون يكتبون ساخرين...
...يتكامل المشهدان لتظهر صورة وطن محاصر -كغرفة بجدران- ومواطن يبحث عمّن يلوِّن يومه بابتسامة. هذا ما يؤكده الكاتب، الممثل والمخرج اللبناني "جو قديح"، موضحا أن الضحك "حاجة يومية" للمواطن اللبناني.
ويواصل جو قديح عرض عمله المسرحي Le jocon بنجاح في بيروت. وما يقدمه عبارة عن "ستاند أب كوميدي"، يغوص من خلاله في يوميات اللبناني فيقدمها في قالب كوميدي، معتمداً على طرائف سياسية وإيحاءات بعض منها جنسية.
وفي عمله المسرحي يجلس قديح على كرسي في عيادة طبيب نفسي، يروي سيرته الذاتية منذ الولادة. الروايات الشخصية التي يقدمها هي بمثابة اختصار لمجتمع يعاني تغيراً دائماً في بعض العادات والمفاهيم. ولا يعتمد قديح الإبهار التكنولوجي في ما يقدم، بل يسعى إلى تحفيز مخيلة الحضور. وهي مسألة تتطلب "وعياً للمادة المقدمة، فيتحقق هدف الجمهور بالضحك ومواجهة التحديات بنفحات إيجابية".
المسرح قبل وبعد الحرب اللبنانية
بدوره، يؤكد الممثل الكوميدي بيار شماسيان أهمية الضحك في حياة اللبناني، معللا ذلك بما حدث خلال الحرب اللبنانية، حيث "كان فن الشانسونييه يحيا عصره الذهبي"، بحسب قوله. ورغم أن الأوضاع "كانت مأساوية وقتذاك، إلا أن مدمني الأجواء اللطيفة كانوا -وما زالوا- كثرا، فاللبناني متى أمّن قوته اليومي يضع ما تبقى من أمواله على الترفيه".
ووضع نقاد المسرح اللبناني بأنماطه المختلفة -مسرح تجريبي، مسرح كوميدي، مسرح راقص، شانسونييه، فودفيل وغير ذلك- خطاً فاصلاً بين العمل المسرحي الفني قبل الحرب اللبنانية وما بعدها، أي ما بعد فترة التسعينيات (الثالث عشر من أكتوبر ١٩٩٠ - الموعد الرسمي لانتهاء الحرب). وهم يرون أن المسرحيات المختلفة التي عُرضت في لبنان في فترة ما بعد الحرب، أخفقت - رغم أهمية بعضها- في إثارة الجدل الفني والثقافي، وإغناء الثقافة عامة.
ويرى الخبير في شؤون المسرح الدكتور نبيل أبو مراد، "إن بيروت كمدينة ثقافة لم تتكون بعد الحرب ولم تصل الأعمال المقدمة إلى صقل مجتمع جديد يميز الأعمال الثقافية المفيدة عن الأعمال المبتذلة".
بيد أن غياب الثقافة المسرحية والتمييز البنَّاء بين الأعمال الفنية المقدمة، لا ينفي من وجهة نظر أبو مراد "جموح اللبناني نحو الضحك وهو ما يفسر كثرة وتنوع الأعمال الفنية المقدمة، حتى وإن كان المضمون ضعيفا تافها".
فن الشانسونييه
ويؤكد "بيار شماسيان" كلام الدكتور أبو مراد، حين أشار إلى أن "الشانسونييه مثلا لم تعد كما في الماضي؛ كل يوم هناك فرقة شانسونييه جديدة وليس في ذلك دليل عافية، فالفرق الصاعدة باتت تعتمد الإغراء والنكات الجنسية، وفي ذلك فعل انحطاط". الشانسونييه، يتابع شماسيان، "لم تكن يوما كما هي اليوم، ولكن فئات كبيرة من المجتمع تقصد المسرح للضحك والترويح عن النفس".
"والشانسونييه في الأساس -يقول شماسيان- تعبير فرنسي، وهو مسرح غنائي نقدي، وعليه فإنه عمل جدي فيه ابتكار ولا يجوز حصره بالفن الهابط"؛ مشيرا إلى أن "بطاقة الدخول لحضور الشانسونييه هي من الأكثر تكلفة في لبنان نظرا لكون الراغب بمتابعة الأعمال الفنية هذه، يأتي للسهر والضحك وتناول العشاء في الوقت عينه".
الفلس الأبيض ...
"خبّئ قرشك الأبيض ليومك الأسود" مثل شعبي لبناني معروف، حَوّرَ المواطن "ربيع فغالي" مضمونه إلى "اجمع فلسك الأبيض للضحك". فغالي يوضح شعاره بالقول "إذا اخترت العيش في لبنان فأمامك خياران، إما اليأس أو اللجوء إلى الكوميديا". ويتابع: "نحن شعب محب للحياة، ومهما ازدادت الصعوبات، سنبقى متفائلين ومتمسكين بجذورنا".
ويقر "ربيع" أن دخله الشهري زهيد، ويكفيه بالكاد لتأمين قوته اليومي، إلا أنه يجمع المال ليتابع آخر أعمال الكوميديين ويضحك على السياسة والسياسيين".
مسرحة التلفزيون وتلفزة المسرح
ويتشارك ربيع القناعات نفسها مع مجموعة من أصدقائه. البعض منهم متزوج، والبعض الآخر أعزب، لكن القاسم المشترك بينهم، يتمثل في البحث عن الضحك. وتعتبر حالتهم المادية متوسطة، وهو ما يجُرّ إلى التساؤل: أليس الضحك حقاً مشروعاً لمحدودي الدخل أيضا؟
ردا على ذلك، أشار الدكتور أبو مراد إلى ظاهرة "مسرحة التلفزيون وتلفزة المسرح". ويعني بذلك قيام بعض المحطات بعرض مقاطع من مسرحيات ضاحكة معروضة مسبقاً على المسرح. موازاة لذلك، يغزو "أبطال الشاشة الصغيرة" خشبات المسرح بأعمالهم (...) وهذا ما يفسر انتقال بعض البرامج وبالأسماء عينها من التلفزيون إلى المسرح لتقدم على أنها شانسونييه. وبهذا يتمكن كل لبنان من متابعة كل الأعمال ويبقي للضحك مكان محفوظ".
...وبين "ستاند أب كوميدي"، الشانسونييه والمسرح الجدّي خيط مشترك بمثابة طريق نحو الضحك والأمل. ويقول النقاد إن هناك أعمالاً تستحق التوقف عندها حتى لو لم تكن بالعمق الثقافي المطلوب، غير أن "غالبية اللبنانيين لم تعد تهتم كثيرا بالثقافة بقدر ما باتت تتطلع إلى الضحك على أي شيء ينسيها الهم اليومي"، كما يؤكد الدكتور أبو مراد.
وبنضاله اليومي للعيش وبحثه المتواصل عن الضحك، يخرج اللبناني من وسط الركام ليردد: "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".
خلدون زين الدين
تحرير: وفاق بنكيران
حقوق النشر: دويتشه فيله 2013