برلين عاصمة المهجر والمنفى تحتفي بالتنوع
صور فوتوغرافية معروضة في نافذة مخصصة للعرض تُظهِرُ أياديَ تدلك عجينًا، وأرغفة خبز عربي تُخبَز في الفرن. يستلقي أمام الواجهة الأمامية لمكان عرض الصور رجل مشرّد، يلفّ نفسه بكيس للنوم، آملًا أن يحميه هذا الشيء الواهي من برد برلين في شهر كانون الأول/ ديسمبر. يافعون يرتدون سترات ذات قبعات يخرجون من باب الفناء الزجاجي لمركز زودبلوك الثقافي، الذي تغطي جدرانه الخارجية رسوم الغرافيك؛ في وقت تواصل فيه خطوط مترو الأنفاق والسيارات في منطقة كوتبوسر تور عبورها [بصورة روتينية].
يختلف معرض "الوصول والحصول على وطن - برلين عاصمة المنفيين؟" عما جرت عليه العادة بالنسبة للمعارض الفنية، إذ صُمِّم على شكل نزهة في مدينة برلين، تأخذ الزوار في جولة عبر أحياء نويكولْن وكرويتسبيرغ في برلين، ليمر الزائر خلالها بمساجد وبنايات السكن الاجتماعي ومراكز ثقافية صغيرة وأكشاك وجبات سريعة. وبذلك لا يعرض المعرض فحسب أعمال الفنانين في منفاهم في برلين، وإنما يسلط الضوء أيضًا على هذه الأحياء البرلينية وعلى حياة المهاجرين فيها.
فقبل عشرة سنوات، انطلقت الحركات الاحتجاجية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، واضطر ملايين الأشخاص منذ ذلك الحين إلى الفرار من أوطانهم وإيجاد موطن جديد في مكان آخر، حيث وصل العديد من الناشطين والفنانين من سوريا ومن مصر ومن دول المنطقة الأخرى إلى برلين. وها هم الوافدون الجدد يضفون بدورهم طابعهم على الحياة في العاصمة الألمانية، ليس فقط فيما يخص ألوان طعامهم واللغات التي يتكلمون بها، وإنما أيضًا إبداعهم، تمامًا كما فعل قبلهم العمال الأتراك أو الفيتناميون، واللاجئون السياسيون من إيران أو من إريتريا، ولاجئو الحرب من البلقان أو من أفغانستان، والطلاب من جميع أنحاء العالم.
Berlin, die „Hauptstadt des Exils“!
Der Video-Beitrag ist im Kontext unseres aktuellen Projekts „be/coming/home“ entstanden.
Bereits im November organisierten wir einen Workshop für Menschen die in #Berlin im #Exil leben. Auch Farah Barakat war damals Gast unseres Workshops. pic.twitter.com/zg5X1GRCa8
— dis:orient (@disorient_do) December 2, 2020
وقد قام نادي "ديس:أورينت" بالاحتفال بالقادمين الجدد عبر تنظيمه هذا المعرض ليكون بمثابة تذكار لهم. من السهل زيارة المعرض على الرغم من قيود الحد من التواصل الاجتماعي بسبب جائحة كورونا، إذ يمكن للزوار معاينة المعروضات في محطات معينة تقع في الهواء الطلق. المعرض المستمر من 11 حتى 22 من كانون الأول /ديسمبر 2020 يطرح سؤالاً عن احتمال أن تصبح برلين موطنًا جديدًا للواصلين الجدد، وعن الكيفية التي سيغير بها كل من المدينة وسكانها الجدد بعضهم بعضًا.
ما بين المصاعب والجمال والحياة اليومية الاعتيادية
ارتفعت نسبة سكان برلين ممن يتمتعون بخلفية مهاجرة بنسبة واحد في المئة سنوياً خلال السنوات العشرة الماضية، لتصل بحلول نهاية عام 2020 إلى 35 في المئة؛ وينحدر معظمهم من تركيا أو من دول عربية، حتى أن واحداً من كل اثنين من سكان منطقة نويكولن يحمل جواز سفر أجنبياً أو أحد والديه على الأقل من أصل أجنبي.
ولذلك فقد كان من المناسب أن يأخذ المعرض زواره في جولة لزيارة اثنتي عشرة محطة تقع كلها في أحياء نويكولن وكرويتسبيرغ، بما يقدم صورة مباشرة عن حياة المهاجرين في صعوبتها وجمالها ونمط حياتهم اليومية الاعتيادي، وذلك في قلب منطقتي كوتبوسَر تور وهيرمان بلاتْس وصولًا إلى شارع زونِن أليه.
وإلى جانب الأعمال الفنية التي يمكن مشاهدتها خلال الجولة على الأقدام إما في محطات المعرض أو بصورة موازية عبر الهاتف الذكي، نرى أيضًا مساجد ومعابد يهودية ودور سينما وشوارع ومساحات ثقافية ومقاهي وساحات على الطريق من محطة مترو الأنفاق غورليتس وصولًا إلى ميدان تِمْبِلْهوف. ويروي طالب الدكتوراه المصري وممثل نادي "ديس:أورينت" إسكندر عبد الله قصة كل محطة على حِدَة في الدليل الصوتي للمعرض المسجل على الإنترنت.
ويشرح زميله في نادي "ديس:أورينت"، جورج لاير، الذي كان له دور فعّال في التخطيط للفعالية، قائلًا: " لقد اخترنا المحطات المعروفة بكونها أماكن لجوء أو تحقيق الذات للوافدين الجدد في برلين". ويذكر جورج لاير أن تخطيط الفعالية على صورة جولة في المدينة قد أصبح ضروريًا بسبب جائحة كورونا، ولكن ذلك قد كان مطروحًا على الطاولة حتى قبل حدوث الجائحة، وفق ما أقرَّ به جورج من قبل في الداخل قائلًا: "يتعلق الأمر بموضوع المنفى في برلين، ولهذا السبب أردنا ربط المعرض بالمدينة وليس إقامته في مكان داخلي لا علاقة له بموضوع المعرض".
"تعلمتُ ألاَّ مكان خاصٌّ بي - وبذا بإمكان كل مكان الانتماء إليّ"
ويعرض التقرير المصور في مركز زودبلوك الثقافي -المذكور أعلاه- صورًا التقطت في مخبز "حبيبي". وقد وثّق المصور الصحفي السوري محمد البديوي عمل المخبز للدلالة على أهمية الخبز العربي بوصفه شيئًا يذكّر بالوطن يوميًا.
وقد كتب محمد البديوي في نصه المخصص للمعرض: "يمكن للخبز العربي، شأنه شأن الأطباق الأخرى، أن يثير الذكريات، ويخلق الشوق، كما يهدئ ويشبع الحنين إلى الوطن في الوقت نفسه. لقد أصبح الخبز العربي جزءًا من [ثقافة] برلين بعد أن بدأ القادمون الجدد من العالم العربي في بناء وطن لأنفسهم هنا".
ويقع مقهى بلبل على مسافة بضع دقائق فقط سيرًا على الأقدام من مركز زودبلوك الثقافي، وكان قد أصبح في العام السابق 2019 مكانًا معروفًا للقاء المغتربين الناطقين باللغة العربية. وها هو مقطع فيديو للفنانة الفلسطينية كرمل العباسي بالإمكان مشاهدته عبر الواجهة الأمامية للمقهى وذلك كجزء من جولة المدينة التي نظمها نادي "ديس:أورينت".
وتذكر كرمل العباسي، الفنانة المولودة في سوريا لوالدين فلسطينيين -والتي عاشت فيما بعد في غزة وفي النرويج وفي إسبانيا- أن موضوع فنها مرتبط دائماً بالتهجير، وتضيف قائلةً: "لقد تعلمتُ أنه لا يوجد مكان خاصٌّ بي، وعلى هذا النحو يمكن لأي مكان الانتماء لي".
حرية فردية ناطقة باللغة الأم
وهذا المعرض هو جزء من مشروع أكبر يقوم عليه نادي "ديس:أورينت"، ويهدف إلى تشبيك المبادرات والإمكانيات السياسية في "عاصمة المنفى"، أي في برلين، كما يصفها عالم الاجتماع المصري عمرو علي في مقال نشر له في العام 2019. ووفقًا لما ذكره عضو نادي "ديس:أورينت" جورج لاير، بدأ عمرو علي النقاش حول برلين بوصفها عاصمة المنفى، وبالتالي ألهم فكرة المعرض.
ويدعو عمرو علي في مقاله الشتات العربي إلى ضرورة التنظيم في مدينة آمنة بعيدة عن الوطن لتكوين اتجاه سياسي أو فلسفي مشترك. ويرى برلين مدينة مناسبة لهذا الغرض بصورة خاصة، ذلك لأنها توفر مكانا مناسبا للعيش بأسعار معقولة مقارنة بالعواصم الأوروبية الأخرى، وليس لها ماضٍ استعماري ملحوظ في الشرق الأوسط أو في شمال أفريقيا.
وقد كتب عمرو علي في مقاله هذا: "يدرك كل مواطنة عربية أو مواطن عربي وفد حديثاً إلى برلين، وبصورة مفاجئة (ولكن ليس دائمًا)، أن العادة المؤلمة المكتسبة في الوطن، المتمثلة في النظر خلف الكتف [ إلقاء النظرات يمنة ويسرة وللخلف قدر الإمكان تحسبًا من وجود شخص ما في الجوار قد يتجسس على الحديث لصالح جهاز المخابرات أو ما شابه]، تتلاشى تدريجياً. وينبثق في غضون ذلك فجر جديد ببطء عندما يلتقي الأشخاص المتشابهون في التفكير في هذه المدينة الجديدة ".
وبهذه الطريقة، تصبح برلين موطنًا جديدًا للشتات (ليس فقط للناطق بالعربية) يوفر الحرية الفردية ويمكن للمرء فيه أن يعبر عن نفسه بلغته الأم، في بيئة استوردت أصواتاً ونغمات وروائح مألوفة من الوطن.
[وأخيراً وليس آخرًا] يحاول هذا المعرض الاقتراب من مكامن الطاقات الإبداعية التي تنشأ عنه، ومن الأماكن التي يمكن أن تنمو فيها هذه الطاقة الكامنة. هذه الاحتمالات الإبداعية يجب أن تصبح مرئية بصورة دائمة في مساحات العاصمة الثقافية في موعد أقصاه نهاية جائحة كورونا.
حنا الهيتمي
ترجمة: حسام الحسون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
.................................
طالع أيضاً
في ذكرى إدوارد سعيد ... المنفيّ بين الثقافات - بعد 41 عاماً على "الاستشراق"
.................................
[embed:render:embedded:node:24129]
[embed:render:embedded:node:31950]