أمثلة بناء عربي لمدن المستقبل
يملأ المعرض الصغير في متحف فيترا للتصميم بناء يشبه الرواق ويذكِّر بفناء داخلي. وهذا البناء المغطى بقطع قماش لونها رملي من المفترض أن يوحي في الوقت نفسه بخيمة أمام خلفية صورة بانورامية تملأ الحائط بمنظر صحراء جبلية.
ويوجد في المعرض ثمانية عشر ركنًا يُمثِّل كلٌّ منها بلدًا عربيًا وتم فيها على ألواح صغيرة تلخيص طرق البناء الخاصة بكلِّ بلد. وتمنح الزائر انطباعًا عن طرق مقاومة الناس منذ آلاف السنين للحرارة التي غالبًا ما تكون شديدة في البلاد العربية.
وفي أثواب القماش في كلّ ركن تمت خياطة جيوب تحتوي على علب فيها نصوص وصور. وبإمكان الزوَّار الجلوس على طاولات صغيرة والحصول على لمحة عن استراتيجيات البناء من أجل التغلب على شدة الحرارة في الشرق.
وتشمل العناصر المتكرِّرة هنا الحوائط والجدران السميكة المصنوعة من مادة البناء التقليدية القابلة جدًا للتنفس، أي من الطين، والسقوف والقباب العالية وكذلك الأفنية الداخلية المظللة والتي توفِّر برودة الهواء.
تجدُّد الاهتمام بالمباني الطينية التقليدية
لقد كانت مثل هذه التصميمات تُستخدم في المباني المصرية القديمة، في أماكن مثل واحة سيوة، ولا تزال المباني التقليدية المبنية بالطوب اللبن يتم بناؤها في أشكال مشابه في القرى النوبية على طول نهر النيل.
وكذلك يمكن رؤية استمرارية أساليب البناء هذه لفترة طويلة في الفناء المغربي داخل المنازل المعروفة باسم "رياض". فبينما تكون فتحات النوافذ في الجدران الخارجية صغيرة لحمايتها من الحرارة -مثل حال العمارة العربية التقليدية غالبًا- تكون النوافذ المطلة على الفناء الداخلي واسعة جدًا. وهذه الفتحات الواسعة تعمل على زيادة دوران الهواء وتضمن بالتالي برودة المباني.
وإلى جانب القصبات في المدن، والتي تعتبر نموذجية أيضًا للعالم العربي وتكون محمية باتجاه الخارج والقلاع الشبيهة بالحصون في المناطق الريفية الجبلية، توجد كذلك ميِّزات معمارية أخرى تعمل على حماية المبنى من الحرارة.
تنتشر بشكل خاص في تونس ودول الخليج أبراج تعرف باسم "أبراج الرياح" تكون مثبَّتة على أسطح المباني. وهي تقوم بتوجيه تيَّارات الرياح إلى داخل المباني ومن خلال استخدام مناديل مبللة يمكن زيادة التبريد أكثر.
القيِّمان على هذا المعرض شقيقان توأمان اسمهما راشد وأحمد بن شبيب، شابان في أواخر الثلاثينيات من عمرهما وينحدران من بلد من أكثر البلدان حرارة في المنطقة. فعادة ما تصل درجات الحرارة في مدينتهما دبي خلال الصيف إلى نحو خمسين درجة مئوية.
لقد درس هؤلاء الشقيقان في أكسفورد التنمية الحضرية المستدامة وصنعا اسمًا لنفسيهما من خلال المجلة الثقافية الغنية بالصور "براون بوك" التي ينشرانها منذ ستة عشر عامًا. ومن الموضوعات المحورية في هذه المجلة عرض صور المدن التي تهتم بشكل واضح في خصوصيات العمارة العربية والشمال إفريقية.
تشابك الطبيعة والمناخ والهندسة المعمارية
يسعى القيِّمان على المعرض إلى إظهار كيف تتشابك الطبيعة والمناخ والهندسة المعمارية بعضها ببعض وما هي العلاقة القائمة بين العمارة والبيئة.
لقد جاء اهتمامها هذا أيضًا من سيرتهما الذاتية، مثلما أوضح رشيد بن شبيب خلال الحديث معه: "نعم، نحن نشأنا في مناخ حار ونعيش في وسط عائلاتنا مع الاحتفالات التقليدية مثل رمضان، حيث تجري الحياة في الداخل والخارج. وهذا جزء من هويَّتنا وقد شكَّلت نشأتنا مع ذلك مصدر إلهام لنا".
لقد تم استخدام المواد الوثائقية الشاملة من مجلتهما "براون بوك" لإقامة معرض "مدن ثقافات حضرية في مرحلة انتقالية" عام 2017 في متحف فيترا للتصميم، والذي ركَّز على التغيير في المدن العربية. وفي عام 2021، حظي الأخوان شبيب باهتمام دولي من خلال مساهمتهما في جناح الإمارات العربية المتَّحدة الذي حصل على جائزة الأسد الذهبي في بينالي البندقية.
ولفت الجناح الإمارتي الانتباه إلى المزايا البيئية للخرسانة الملحية وقد ساهم الباحثان المختصان في المدن، أحمد وراشد بن شبيب بكتاب توثيقي مفصَّل حول هذا الموضوع، يشرح الظاهرة البيئية المعقَّدة في "السبخات" (البحيرات الملحية) في منطقة الخليج والتي يُستخرج منها الماء الشديد الملوحة.
وهما يعتبران معرضهما الحالي في مدينة فايل أَم راين أرشيفًا متنقِّلًا ويأملان أيضًا في عرضه في بريطانيا والدول العربية. ويقدِّمان في هذا المعرض حافزًا خفيًا لثقافة البناء الأوروبية وذلك مثلًا من خلال نموذج صغير من الطين. حيث تم تزويد سقف صالة معرض متحف فيترا للتصميم، التي صمَّمها المهندس المعماري النجم فرانك جيري، ببرجين للرياح من تلك المستخدمة تقليديًا من أجل التبريد في الهندسة المعمارية في منطقة الخليج.
ولكن الهدف من هذا المعرض مثلما يؤكِّد راشد بن شبيب "ليس إعطاء تعليمات أو فرض حلول". ويضيف: "نحن نريد منح الناس الفرصة لتجربة هذه الموضوعات المختلفة بطرق متنوِّعة بحيث يتمكَّنوا من التفاعل معها والتعلم منها".
يرى مدير المتحف السيِّد ماتيو كريس وبكلِّ تأكيد إمكانيات كبيرة للتعليم، وهذا ليس فقط في موضوع الأفنية الداخلية واستخدام الطين كمادة بناء، والتي صارت في الآونة الأخيرة تزداد شعبيَّتها على أية حال حتى في المناطق الأكثر برودة هنا في أوروبا.
إذ يتم في ألمانيا اليوم استخدام مواد بناء طينية أكثر حتى من أي بلد آخر في أوروبا، وفي برلين يكافح الناشطون البيئيون بقوة متزايدة ضدَّ إغلاق العديد من الأفنية الداخلية في المدينة ومن أجل الحفاظ عليها.
ويأمل ماتيو كريس أيضًا في أن يثير مشروع هذا المعرض التفكير النقدي في "الشعور بالتفوُّق" السائد هنا في ألمانيا، والذي يُنظر من خلاله إلى جنوب العالم وهندسته المعمارية.
وهذا المعرض يعرض بحسب تعبير ماتيو كريس أسلوب بناء يتفوَّق على أسلوب بنائنا: "نحن بنينا بالخرسانة وبتكنولوجيا عالية. وهذه حلول ضعيفة وغالبًا ما تكون أيضًا موضوع شكّ حقًا عندما يتعلق الأمر بالمناخ. وهنا في هذا المعرض لدينا هندسة معمارية تبيِّن لنا كيف يمكننا العودة إلى طريقة تعامل طبيعية مع تغيُّرات المناخ".
جوزيف كرواتورو (يوزيف كرويتورو)
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
معرض "مدن حارة: دروس من العمارة العربية" مستمر حتى الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 2023. وتم إعداد دليل شامل لهذا المعرض.