حالة كلاسيكية من حالات لوم الضحية وتبرئة الأنظمة السلطوية
لـمَّحت عدة مقالات في الصحافة الإيطالية، والتي كتبها صحفيون وآخرون لا يمتلكون خبرة أو معرفة بحثية بشأن الشرق الأوسط، إلى أن المشرفين على رسالة جوليو ريجيني يتحملون مسؤولية إرساله إلى مكان خطر، زاعمين أنهم كانوا على دراية بأنهم يعرضون حياته للخطر. هذه مزاعم عارية عن الصحة وأولئك الذين يطلقونها لامسؤولون، بل وخسيسون.
هم لامسؤولون لأنه لا يمكن إطلاق اتهام جاد كهذا - بإرسال شخص ما إلى حتفه - دون أن يكونوا على دراية تامة بالموقف ودون أن تكون لديهم أدلة قاطعة. وحتى إن كنت تعتقد أنك تمتلك هذه الأدلة؛ إذا لم تكن من معلقي المشانق، بل شخصاً يحترم قواعد العدالة الأساسية في ظل حكم القانون، والذي ينص على أن كل متهم بريء حتى تثبت إدانته، فإنك ستطرح أسئلة بدل من إطلاق اتهامات مباشرة، وذلك طالما لم تثبت الإدانة رسمياً.
كما أن من يتهمون المشرفين خسيسون أيضاً لأنهم لا يتحلون بمشاعر التعاطف، فهم لا يأخذون في عين الاعتبار مشاعر المشرفين، الذين واجهتهم كارثة فقدان أحد طلابهم - شخص عرفوه بشكل جيد وتحدثوا معه لساعات طويلة عى مدار عدة أعوام. وبدلاً من ذلك، فإنهم يحملون المشرفين مسؤولية مقتل ريغيني. وبذلك، فإنهم يتصرفون كصحفيين يتهمون علناً والدي طفل بالتسبب في موت طفلهم دون أي معلومات حقيقية حول ما حدث ودون أي إثبات رسمي للتهم.
جهل تام بظروف البحث الأكاديمي في مصر
وفي حالة جوليو ريجيني خصوصاً، فإن هذه الاتهامات أكثر لامسؤولية وخسة، وذلك لأنها مبنية على جهل تام بظروف البحث الأكاديمي في مصر، وبالأخص البحث الذي كان ريجيني يقوم به هناك. لقد شاءت الصدف أنني أعرف جوليو بشكل شخصي، فبعد إنهائه رسالة الماجستير في جامعة كامبريدج، قام بالاتصال بي عام 2012 لتحضير رسالة الدكتوراه تحت إشرافي. بعدها قمنا بتبادل رسائل البريد الإلكتروني وتحدثنا حول مقترح البحث الذي تقدم به. كان جوليو يريد دراسة الحركة العمالية المستقلة الجديدة في مصر، وقد وجدت ذك مشروعاً منطقياً للغاية، خاصة وأنه يمتلك معلومات جيدة عنه مسبقاً. بعد ذلك، قام جوليو بتقديم طلب للانخراط في برنامج الدكتوراه في جامعتي، وطلب أن أقوم بالإشراف على رسالته، وقد قبلت ذلك.
كان ذلك في مطلع عام 2013. وفي يونيو/ حزيران من نفس العام، كتب جوليو لي بأنه لم يتمكن من تأمين التمويل اللازم لدراسة الدكتوراه، ما سيضطره إلى تعليق الدراسة. لقد كان يكتب من القاهرة، حيث كان يعمل في وزارة الصناعة بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو). لم "يُرسل" جوليو إلى بلد مجهول ليقوم بإجراء بحث طلبه منه مشرفوه، كما كان العديد من المعلقين الصحفيين الرخيصين يعتقدون، بل كان مصمماً على إجراء بحث حول موضوع كان قد جمع معطيات عنه في السابق، في بلد كان يعرفه بشكل جيد وعاش فيه لفترة من الزمن قبل أن يعيد التسجيل لدراسة الدكتوراه عام 2014، في جامعة كامبريدج التي تخرج منها سابقاً.
على الصحفيين الأوروبيين الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية والعدالة
أعرف بشكل شخصي أيضاً طلاباً آخرين في عدد من الجامعات عملوا أو ما زالوا يعملون على رسائل الدكتوراه الخاصة بهم والمتعلقة بالحركة العمالية في مصر. هذا يعني أن أبحاث جوليو ريجيني لم تكن أمراً استثنائياً. لم يكن الأمر وكأنه كان يجري أبحاثاً حول تنظيم "داعش" في مناطق يتحكم بها هذا التنظيم! أضف إلى ذلك أن علاقة المشرفين بطلاب الدكتوراه هي علاقة مشرف أكاديمي بباحث بالغ، ولا يمكن مقارنتها بعلاقة المعلم بتلميذ في المدرسة يحتاج إلى تفويض من والديه كي يشارك في رحلة مدرسية. علاوة على ذلك، فإن المشرفين لا يتحكمون بحركة طلابهم ولا يتعقبون الأماكن التي يزورونها عبر هواتفهم الذكية! إذاً، مهما كانت الظروف التي اغتيل فيها جوليو، من المشين للغاية إلقاء اللوم على مشرفيه.
بالإضافة إلى ذلك، وبما أن جوليو كان شاباً ذكياً في السابعة والعشرين من العمر، فإن تلك الاتهامات لا تفضي إلا إلى لومه على اغتياله. إذا كان جوليو يخاطر بحياته طوعاً وعن معرفة تامة، حتى وإن طُلب منه ذلك، فإن هذا سيعني أنه، كشخص بالغ، يتحمل مسؤولية موته. هذه حالة كلاسيكية من حالات لوم الضحية. لقد قرأت عبارات لا يصدقها عقل في الصحافة الإيطالية، كتبها أشخاص جاهلون تماماً بموضوع البحث الذي كان جوليو يجريه، تزعم أن البحث الذي كان يجريه ربما كان مرتبطاً مباشرة بأجهزة الأمن المصرية.
هذا أمر مشين! إذ لا يكفينا المنظر المقرف لساسة الحكومات الأوروبية وهم يتصرفون كبائعين عديمي الضمير ويصطفون من أجل زيارة الطواغيت. بدلاً من تبرئة هذه الأنظمة الدكتاتورية نفسها، على الصحفيين الأوروبيين الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية والعدالة، والتي تزعم أوروبا أنها بنيت عليها.
جيلبير الأشقر
ترجمة: ياسر أبو معيلق
حقوق النشر: أوبين ديموكراسي / موقع قنطرة 2016 ar.qantara.de