حول حب مبني على سوء فهم ثقافي

صورة من ملحمة بوتشيني "مدام باترفلاي": السيدة فراشة - النمسا.
صورة من ملحمة بوتشيني "مدام باترفلاي": السيدة فراشة - النمسا.

ملحمة عبَّرت عن فروق ثقافية بين الشرق والغرب وأكسبت الشرق مثاليةً وكشفت مجازياً عن استعلاء عرقي غربي تجاه ثقافات وأديان أخرى كالبوذية والإسلام. عارف حجاج شاهدَ في النمسا أوبرا بوتشيني الشهيرة.

الكاتبة ، الكاتب: عارف حجاج

عبرت ملحمة بوتشيني "مدام باترفلاي"Madame Butterfly على سطح مياه بحيرة كونستانس في مدينة بريغِنتس (بريغنز) النمساوية عن الفروق الثقافية والتراثية بين الشرق والغرب وأكسبت التقاليد الشرقية طابعا مثاليا يفوق ربما الواقع الحي. كما كشفت بأسلوب مجازي عن معالم العنصرية والاستعلاء العرقي في الغرب تجاه الثقافات والتقاليد والأديان الأخرى كالبوذية أو الإسلام.

هناك آلاف المتاحف وأماكن التسلية والسياحة القائمة في الهواء الطلق. لكن مدينة بريغِنتس (بريغنز) Bregenz النمساوية تستضيف دارا للأوبرا على نحو لا مثيل له ربما في العالم كله. فهذه "الدار" ليست مبنى حقيقيا وإنما منصة مسرحية متغيرة بحسب المقطوعة الأوبرالية تقع فوق مياه بحيرة كونستانس Bodensee التي تجمع بين ثلاث دول مختلفة هي ألمانيا والنمسا وسويسرا. 

شهد المهرجان هذا العام رائعة الموسيقار الإيطالي الشهير جاكومو بوتشيني Giacomo Puccini المسماة "مدام باترفلاي" Madame Butterfly التي تجسد الحب والخيانة والتضحية. من الطريف أن البحيرة لم تكن محض كواليس جمالية بل استخدمت بين الحين والآخر كمشهد تمثيلي فرأينا على سبيل المثال وسيط الزواج المحتال يلجأ الى السباحة في البحيرة هربا من لعنات "مدام باترفلاي" التي رفضت عروضه المبنية على محض المصلحة الأنانية.

استهتار بالقيم الآسيوية

لم يبخل المخرج الألماني من أصل مجري أندرياس هوموكي Andreas Homoki في هذه الدراما (مدام باترفلاي أي الفراشة) في نقد العقلية السائدة في الولايات المتحدة مستخدما العديد من القوالب النمطية فأظهر نمط الحياة في اليابان بسيطا وأصليا مقارنة بالصلف والغطرسة لدى ضابط بحرية أمريكي كلف بأداء مهمة عسكرية مؤقتة زمنيا في مدينة ناغازاكي Nagasaki اليابانية لفترة وجيزة.

 

صورة من ملحمة بوتشيني "مدام باترفلاي": السيدة فراشة - النمسا. Bregenz Österreich Madame Butterfly Seebühne  Foto Aref Hajjaj.jpg
عبرت ملحمة بوتشيني "مدام باترفلاي"Madame Butterfly على سطح مياه بحيرة كونستانس في مدينة بريغِنتس (بريغنز) النمساوية عن فروق ثقافية وتراثية بين الشرق والغرب وأكسبت تقاليد الشرق طابعا مثاليا وكشفت مجازيا عن استعلاء عرقي في الغرب تجاه الثقافات والأديان الأخرى كالبوذية أو الإسلام: أكبر المشاكل التي تواجهها "دار" الأوبرا لا تمت بأية صلة للفنون المسرحية أو الموسيقية بل تعود فقط لعوامل الطقس المتقلبة في دول وسط أوروبا حيث يكون الجو هادئا في بعض الأحيان وممطرا بشدة أحيانا. في حالة انهمار المطر الشديد يتعين على المتفرجين الانتقال إلى قاعة تنقل لهم بوسائل الإعلام السمعية والبصرية بقية مشاهد الأوبرا.

 

رغب ضابط البحرية الأمريكي ببنكيرتون Pinkerton في تكوين علاقة محض جنسية مع فتاة يابانية جميلة تدعى تشوتشوسان لم تتعدَّ من العمر 15 عاما فرتب له وسيط زواج ينحدر من أوساط اجتماعية فاسدة فتاة غيشا من مدينة ناغازاكي Nagasaki كانت تنتمي في السابق إلى فئات اجتماعية ثرية إلى أن أوصلت محن اجتماعية واقتصادية شديدة عائلتها الى أسوأ حالات الفاقة والانهيار المجتمعي. لم يكترث ضابط البحرية بأحوال تلك الفتاة التي أطلقت عليها تسمية "الفراشة" من قبل.

لكن وسيط الزواج ألح على الالتزام بمراسم الزواج وإن على نحو شكلي لا الزامي يتفق مع العادات والتقاليد السائدة. فهانت الأمور للضابط ووافق على عقد الزواج الذي سيكون بحسب إرادته في أي وقت من الأوقات لاغي المفعول. كما لم يرَ في تلك الزيجة إلا وسيلة مسلية لقضاء أوقات الفراغ أثناء خدمته كملازم بالبحرية الأمريكية في الغربة الأسيوية النائية والغريبة فكرا وتقاليد وحضارة.

أحضرت "الفراشة" جهاز العروس المكون من أشياء تذكارية مثالية أكثر منها مادية أهمها السيف الثمين الذي قدمه القيصر لأبيها لكي يتخذه وسيلة للانتحار إعرابا عن الوفاء بتقاليد الشرف والافتخار السائدة في البلاد. وهو السيف الذي يلعب دورا هاما في نهاية هذه الأوبرا الدرامية. أخذت "الفراشة" علاقتها الزوجية المقبلة على محمل الجد على عكس الضابط الأمريكي. لهذا اعتنقت الديانة المسيحية حبا له مما جعل عمها   بونزو Bonzo وسائر أقربائها يبغضونها ويرون في تصرفها امتهانا لكرامتهم وأعرافهم الدينية والأخلاقية كما لعنتها أرواح الأسلاف الذي ظهروا على منصة المسرح الأوبرالي بطريقة تعبيرية قوية تنم عن الغضب والاستياء مما أثار الرعب في نفسها.

في هذه الأثناء عاد الضابط إلى بلاده تاركا الفراشة ومعها ابنها الذي ولد ثمرة للعلاقة العاطفية القصيرة بينهما. دامت فترة الغياب ثلاث سنوات طويلة دون أن تستلم حتى رسالة وحيدة من بنكيرتون فيما ظلت الفراشة تترقب عودته بحنين وإخلاص وترفض عروض أمير ياباني ولع بحبها بالزواج. كما ظلت متمسكة بطقوس الدين الجديد وباتت تعتبر نفسها أمريكية أولا وأخيرا وإن عانت كثيرا من الفقر والحنين وفقدان الأمل.

عاد الضابط أخيرا الى اليابان برفقة زوجته الأمريكية حيث لم يكن زواجه بالفراشة معترفا به قانونيا وكان فلكلوريا أكثر منه عقد زواج بالمفهوم الشرعي لاسيما أن القانون الياباني يعتبر الزواج في حالة ترك الرجل لزوجته فترة طويلة في حكم الطلاق. لهذا شاء النبيل الثري يامادوري -كما سبق القول- أن يتزوجها لكنها بقيت وفية ومخلصة للضابط الأمريكي. حلمت بعودته وحيدا حاملا شنطة معبأة بأثمن الهدايا وبأنه أخذ يعانقها ويعانق ابنهما بحنين شديد. لكنها اكتشفت بإحساس مر بأن الأمر لم يكن سوى حلم عابر طفيف.

قبل عودة الضابط الى ناغازاكي Nagasaki زارها القنصل وبدأ يتلو عليها بحذر وإحساس مرهف رسالة تلقاها من زوجها يسأله فيها عما إذا كانت الفراشة ماتزال تتذكره وتحبه فقاطعته بشدة وبدهشة كبيرة معربة عن حبها وإخلاصها له وهنا لم يتمالك القنصل نفسه فكف عن القراءة حزينا محبطا فيما هيمن عليه غضب شديد حيال استهتار الضابط بالقيم الآسيوية. كان بنكرتون قد علم مؤخرا بأن الفراشة انجبت ولدا منه فجاء بصحبة زوجته الأمريكية "الشرعية" التي أظهرها المخرج متعمدا على وتيرة مملة بشعة وكأنه يريد تحميلها مسؤولة المصير المحزن للفراشة.

أصر الضابط على اصطحاب ابنه معه إلى الولايات المتحدة وعرض عليها المال للتعويض عما مرت به من المحنة والإحباط لكن الفراشة وافقت على اصطحابه للابن المشترك على مضض وبإحساس حزين لكنها رفضت المال واعتبرت هذا العرض تدنيسا لقيمها الأخلاقية ولم ترَ مفرا بعد ذلك من الانتحار على الطريقة اليابانية (الهاراكيري) لأنها لم تتمكن من العيش مع هذا القدر من البؤس والمعاناة فقتلت نفسها بالخنجر الذي قتل به والدها نفسه. تأثر الضابط الجحود كثيرا وأنَّبه ضميره إلى أقصى حد خاصة بعد أن قرأ ما كتبته الفراشة على الخنجر "الموت بشرف وكبرياء أفضل من حياة الذل والإهانة".

خلفية مسرحية ساحرة نقلت إلى الغرب أجواء آسيوية أسطورية

صمم مهندس الديكور ميشائيل ليفين Michael Levine من الغلاف الورقي بطراز ياباني متميز خلفية مسرحية ساحرة نقلت إلى الغرب أجواء آسيوية جذابة بل حتى أسطورية ورافقت ذلك الفيديوهات التعبيرية المستحدثة والأزياء اليابانية التقليدية الزاهية الألوان التي ألقت الأضواء على الجذور الأصلية للفنون الفولكلورية للقارة الآسيوية. كما برع المخرج أندرياس هوموكي Andreas Homoki المدير الفني لدار أوبرا زيوريخ في التنسيق بين الأصل الأوبرالي للموسيقار بوتشيني والجو الرومانسي الحالم لبحيرة كونستانس.

هذا وقد اتسم إخراج الأوبرا هذا العام 2023 على عكس العروض الماضية بالبساطة المبتعدة عن المبالغة الطنانة ونجح المخرج كثيرا في مزج التأثيرات الضوئية بصور الفيديو التعبيرية. وأبدعت عصمة الله يفا Ismatullahjeva التي مثلت دور الفراشة وهي مغنية سوبرانو من جمهورية أوزبيكستان التي كانت تابعة في السابق للاتحاد السوفييتي.

 

 

"مدام بترفلاي" من حيث الشكل والمستوى

رأى بعض النقاد أن "مدام بترفلاي" لا ترقى الى مستوى ملحمة فيردي "ريغوليتو" Rigoletto التي عُرضت في السابق على منصة البحيرة لكن هذا النقد غير محق لأنه لا يراعي بالشكل المطلوب الفروق الفنية والجوهرية بين طبيعتَيْ الدراما لدى هذين العملاقين الموسيقيين حيث تتسم دراما فيردي بدرجة أعلى من الأبهة والبهاء فيما يميل بوتشيني الى الرومانسية العاطفية.

اتسم اخراج الحركات رقصية الشكل Choreografie بالبراعة وحسن التنسيق بين الموسيقى وحركة الأجسام كما جاء التعبير التمثيلي متميزا على عكس الحال في عروض أوبرالية أخرى تميزت بحسن أصوات المغنين والمغنيات ولكن بقلة قدرتهم على التعبير التمثيلي. كما جاء مستوى غناء التينور Tenor (الضابط) على مرتبة عالية من القدرة المهنية.  هذا وقد رافق العرض الأوبرالي كورال براغ وأوركسترا فيينا الفيلهارمونية ا بقيادة  يي تشين لين  Yi-Chen Lin من تيوان لتي أكسبت مهرجان بريغِنتس (بريغنز) كالعادة طابعا فنيا متميزا.

تعبير بأسلوب مجازي عن استعلاء تجاه الثقافات الأخرى

عبر المخرج وكذلك معه النص المسرحي (دراماتورغ) Dramaturg بأسلوب مجازي عن معالم العنصرية والاستعلاء العرقي في الغرب تجاه الثقافات والتقاليد والأديان الأخرى كالبوذية أو الإسلام. الجدير بالذكر أن الأحكام المسبقة وحتى الكراهية تجاه الإسلام والمسلمين على سبيل المثال تتزايد حاليا على نحو غير مسبوق في المجتمعات الغربية التي يعيش فيها مغتربون ولاجئون مسلمون مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وبريطانيا.

المطر - مشكلة "دار" الأوبرا الواقعة على سطح البحيرة

أكبر المشاكل التي تواجهها "دار" الأوبرا لا تمت بأية صلة للفنون المسرحية أو الموسيقية بل تعود فقط لعوامل الطقس المتقلبة في دول وسط أوروبا حيث يكون الجو هادئا في بعض الأحيان وممطرا بشدة في أحيان أخرى. في حالة انهمار المطر الشديد يتعين على المتفرجين الانتقال من أماكن جلوسهم على ضفاف البحيرة الى قاعة تنقل لهم بوسائل الإعلام السمعية والبصرية بقية مشاهد الأوبرا، وهذا الأمر غير المستحب قد يأتي في آخر مشهد وفي أسوأ الاحتمالات بعد بدء الأوبرا بدقائق قليلة. 

 

عارف حجاج

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de