"الصحافة البيضاء"...نقد المنظور "الاستعماري" في الإعلام الغربي
كم كان الصمت سريعاً بعد فضيحة القصص الصحفية المزورة في مجلة "شبيغل"! يبدو لي وكأن عدداً من الأسئلة المهمة لم يتم حتى طرحها: ما هي الرغبات التي لبتها تلك القصص المزيفة؟ لماذا تُغدَق الجوائز على التقارير التي تروي قضايا عالمية من خلال قصص مشخصنة للغاية؟ وأين هو الحد الفاصل بين التزوير والأساطير المعتادة عندما يسلط البيض الضوء على ثقافات أخرى؟
فيما يتعلق بالرغبات، فإن التقرير الصحفي بعنوان "الطفل الذي بدأت معه الحرب في سوريا" يمنحنا بعض التفسيرات. قبل نشر قصة كلاس ريلوتسيوس، الصحفي الألماني المتهم بتزوير قدر كبير من القصص الصحفية في "شبيغل"، كان عدد من وسائل الإعلام قد كتب عن التلاميذ في مدينة درعا، الذين كانوا يرشون الشعارات على الجدران (ومن ثم تعرضوا للتعذيب). في تلك التقارير، تم تسليط الضوء على طفل واحد كي يتمكنوا من سرد قصته الدرامية بشكل أفضل. وفي كل مرة يحمل الطفل اسماً آخر، ولكنه في النهاية دائماً المذنب.
لدى صحيفة "بيلد" عام 2013 كان اسمه بشير، وفي سوريا كانت القنابل تتساقط "لأن بشير فعل ما فعل". أما لدى "شبيغل"، فكان اسمه معاوية وكان يناضل منذ سبع سنوات "كي يكفر عن ذنبه"! هل هذا لأن "مقلب شباب غبي" تسبب في مقتل نصف مليون شخص؟ في أي مصحة للأمراض العقلية نعيش؟!
ما حصل في مدينة درعا عام 2011 موثق بشكل جيد. تعذيب تلاميذ المدارس هناك فاق كل ما كان المرء يتوقعه من نظام الأسد. نضال آباء أولئك التلاميذ أدى إلى مظاهرات شعبية حاشدة. لم يقف أي أحد إلى جانب الانتفاضة الشعبية، بما في ذلك الغرب، وهذا ما أدى إلى المأساة السورية.
مـأساة تشير إلينا أيضاً، ولكنها لا تفعل ذلك حين يتم تصويرها كعمل سخيف يتحمل مسؤوليته طفل، سواءً ارتبط ذلك بمشاعر ذنب حقيقية أم مختلقة.
وكي يتوافق ذلك مع كون الأسد متمسكاً بالسلطة حتى اليوم، فإن قصة أطفال متخمة بتصاريف الأقدار تشبع شهوة المواطن الأبيض في التحسر على الشر الذي ملأ الدنيا دون أن يتحمل أي تبعات أو يشعر بالمسؤولية. الشرور كلها موجودة هناك، في الخارج.
التركيز على الفرد وتخفيف التعقيدات
هذه حبكات درامية لا توضح شيئاً، ولكنها باتت أحدث صرعة صحفية: التركيز على الفرد، اختصار المشهد المعقد، تحفيز المشاعر وعدم مطالبة القارئ بالتفكير كثيراً. أكثر الأمثلة صراحة على ذلك: توضيح سياسة التقشف الألمانية من خلال صورة صحفية لأنغيلا ميركل!
الإبقاء على مسافة من الحدث ووصفه من وجهة نظر المراقب بدأت تفقد شرعيتها لصالح الفورية المباشرة البلاغية – تلك النظرة من قلب الحدث، مثل قصص كلاس ريلوتسيوس المفبركة بكل موهبة. هل ذلك مرتبط ربما بتجاوزات الفردانية الليبرالية الجديدة وعويل الأنا اليومي، عندما تُفضَّل السرديات المشخصنة على التقارير المفصلة المشبعة بالمعلومات؟ أين يبدأ التزوير في هذه الحالة؟
تأليف نص مما يُعاش ويُقال ويُفكر به يعني دائماً وضع الأمور في نسق مختصر جديد، لأن الحقيقة، المؤلفة من عدد لا يحصى من الأحداث المتزامنة، غير قابلة للتوضيح. لذلك من الطفولي الزعم بأن شعار "قَوْلُ الواقع كما هو" [شعار مؤسسة "شبيغل" الإعلامية] هو النقيض التام للتزوير. الجريمة، وأعني بذلك التزوير المتعمد، سبقها طريق طويل مملوء بالهفوات القانونية. على هذا الطريق يتم تحريف النص وتزيينه وبهرجته حتى يتطابق والصرعة السائدة. وكلما كانت الثقافة التي يتحدث عنها النص أبعد وأغرب، زاد السكوت على فداحة التزوير.
عرضة للكِبْر
الجيل الشاب من المراسلين الصحفيين مؤهل في كثير من النواحي أكثر من جيلي: فهو يتحدث عدة لغات واعتاد العالم ومتمرس في السفر وشجاع بشكل يثير الإعجاب. لكنه –ربما بسبب ذلك– قد يكون أكثر عرضة للكِبر. ومن لم يكن عرضة لذلك، يُدفع به مع مرور الوقت إلى تقبل أسطورة أنه يمتلك قدرة خارقة على فهم كل شيء وسرد أية قصة ومن أي منظور ثقافي ممكن.
الدفع باتجاه ذلك الكِبْر يوفر النفقات، فهو أرخص بكثير من إنشاء مكتب للمراسلين أو دفع رواتب لموظفين محليين بشكل دائم في منطقة صراع ما، كالمترجمين والمساعدين الذين يظهرون كل عام على قائمة القتلى التي تصدرها منظمة "مراسلون بلا حدود" – شهداء على مذبح الإعلام الغربي.
عندما قمت بتحضير نسخة منقحة من كتابي "عن محاولة الكتابة بشكل غير أبيض" بعد ست سنوات من صدوره، اندهشت من قلة التغيير الذي حصل منذ ذلك الوقت. بالطبع، ظهرت الأخبار المزيفة وصيغ جديدة للكتابة، ولكن ما بقي على حاله هو التطاول الثقافي المزدهر في الصحافة الغربية.
من التنميط إلى التزوير
من النادر أن تتم مكافأة التواضع، إلا لو كان تواضعاً مصطنعاً، مثل ما كان ريلوتسيوس يظهره، وليس التواضع الذي يكشف الكسور والعيوب والقصور. بدلاً من ذلك، تُكافَأ جماليات تقمُّص عواطف الآخرين، والتي تحمل أحياناً ملامح استعمارية.
هل يمكننا فعلاً سرد القصة من منظور ربة منزل يمنية أو راعية في بوتان [على أطراف جبال الهيمالايا] أو صياد سنغالي مسنّ، وكأننا جلسنا في عقولهم وقلوبهم وعرفنا ما يكفي كي نضع أنفسنا في مكانهم؟ اليمنية والراعية والصياد المسنّ – لعلَّ هذه الفكرة لن تخطر على بال أي منهم، لأنهم يحترمون حدودهم. لكننا لا نحترم حدودنا، وهذا أحد معالم نمط الكتابة الأبيض.
ثم هنالك التفاعل بين العادات الصحفية المتبعة في وصف سكان دولة ما بطريقة معينة، وبين الاستراتيجيات السياسية والعسكرية المرسومة لتلك الدولة. فالتقارير الصحفية من مالي تروي بشكل شبه حصري وجهة نظر الجيش الألماني. متى، إذاً، يتحول التنميط إلى تزوير؟
لا أحد يعتذر للماليين على ذلك، مثلما لم تعتذر مجلة "شبيغل" للمسلمين في ألمانيا عن صور أغلفتها التخويفية من الإسلام. فأسلمة ألمانيا كانت مادة دسمة للعناوين الصحفية حتى قبل سنوات من ظهور حزب "البديل من أجل ألمانيا" الشعبوي الكاره للمسلمين.
في هذه الأيام، هناك حديث عن عولمة ما بعد الاستعمار. وها هم علماء الأعراق والمتاحف بدأوا يدركون اضطرارهم للتخلي عن أحقيتهم في تحديد المنظور المحوري للأمور. لكن ما الذي ستتخلى عنه الصحافة البيضاء؟ لا شيء. فهي لم تحضِّر نفسها كما يجب للمستقبل.
شارلوته فيديمان
ترجمة: ياسر أبو معيلق
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
شارلوته فيديمان كاتبة ألمانية بارزة مخضرمة