حركة فلسطينية وسطية للتسامح والحوار وردم الفجوات المعرفية
في يوم من أيَّام عام 1938 تم اغتيال حسن صدقي الدجاني بدم بارد في مدينة القدس. كان هذا المحامي والعضو البارز في أحد الأحزاب السياسية يدافع دائمًا عن التعايش بين اليهود والعرب، وعلى الأرجح أنَّه أثار من خلال ذلك غضب مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني. كان هذا المفتي المعجب بأدولف هتلر يتبنّى من دون قيد أو شرط استقلال العرب وكان متطرّفًا في معاداته لليهود.
وفي يومنا هذا أصبح التاريخ يعيد نفسه داخل هذه الأسرة المقدسية: في شهر نيسان/ أبريل الماضي من عامنا هذا 2014، تعرّض حفيد حسن صدقي الدجاني، الأستاذ الجامعي الفلسطيني محمد الدجاني الداودي للتهديد وللعديد من المضايقات على شبكة الإنترنت. وعلاوة على ذلك فقد تم تدمير مكتبه وخرجت العديد من الاحتجاجات ضدّه. وتم الشهير به بوصفه "عميلاً لليهود" و"ملك التطبيع".
وبعدما ابتعد عنه وبشكل واضح معظم زملائه وكذلك أعضاء مجلس إدارة جامعة القدس، التي كان يعمل فيها في منطقة القدس الشرقية، رضخ هذا الأستاذ الجامعي البالغ من العمر 68 عامًا أمام هذه الضغوطات واستقال في شهر حزيران/ يونيو الماضي 2014 من عمله الذي كان يمنحه على العموم الاحترام والتقدير حتى ذلك الحين كأستاذ جامعي للدراسات الأمريكية.
كان سبب تلك الحملة التي تعرّض لها الأستاذ محمد الدجاني الداودي رحلة قام بها في شهر آذار/ مارس الماضي 2014 إلى مدينتي كراكوف وأوشفيتز البولنديّتين (حيث كانت تتم إبادة اليهود في معسكرات الاعتقال والإبادة النازية)، برفقة سبعة وعشرين شابًا فلسطينيًا.
"قلب من لحم وليس من حجر"
كانت هذه الزيارة جزءًا من مشروع علمي ثلاثي لجامعة فريدريش شيلر في مدينة يينا الألمانية وبالتعاون مع جامعتي تل أبيب وبئر السبع الإسرائيليتين، وكذلك بالتعاون مع الأستاذ محمد الدجاني، كما بدأ هذا المشروع قبل نحو عام.
وفي هذا المشروع يحتل مكان الصدارة السؤالُ حول التأثيرات التي يمكن أن تتركها معاناة اليهود وصدمتهم على استعداد الفلسطينيين للمصالحة. يتم تمويل هذا المشروع، الذي يحمل اسم "قلب من لحم وليس من حجر" - استنادًا إلى مزمور من مزامير الكتاب المقدّس، من قبل مؤسّسة البحوث الألمانية DFG.
"تمثّلت الخطوة الأولى أولاً في تغيير وجهات النظر"، مثلما يقول الأستاذ محمد الدجاني. وفي حين أنَّ المشاركين الفلسطينيين سافروا إلى أوشفيتز البولندية، زار الشباب الإسرائيليون مخيم الدهيشة لللاجئين بالقرب من مدينة بيت لحم في الضفة الغربية. وفي المستقبل من المفترض - مثلما تم التخطيط لذلك - أن تقوم مجموعات مختلطة من كلا الطرفين بزيارة لهذه الأماكن مرة أخرى من أجل تبادل الآراء حول الخبرات المكتسبة.
يعتبر القيام بزيارة إلى نصب تذكاري خاص بالهولوكست (محرقة اليهود) موضوعًا لم يعد يحظى تقريبًا بأي ذكر واهتمام في أي مكان آخر. ولكن الأمر مختلف في المجتمع العربي أو بعبارة أدقّ في المجتمع الفلسطيني: حيث لا يزال الجدال حول الهولوكست موضوعًا شائكًا.
فجوات معرفية ونكبة الفلسطينيين
ويعود سبب ذلك من ناحية إلى الفجوات المعرفية القائمة والمعلومات الخاطئة، مثلما يقول الأستاذ محمد الدجاني: "نحن لا نتعلم في المدرسة أي شيء حول ذلك". ومن ناحية أخرى يعود السبب إلى معاناة الفلسطينيين الخاصة - أي "النكبة" التي مثّلت تهجير الفلسطينيين وطردهم من ديارهم - كنتيجة مباشرة للهولوكست. وعلى الرغم من ذلك يعترف محمد الدجاني بأنَّه لم يكن يتوقع مثل هذا الرد القاسي الذي تعرّض له، ولكنه مع ذلك بقي متمسّكًا برأيه. وفي هذا الصدد يقول: "يمكنكم ملاحظة مدى أهمية دعم مثل هذه المشاريع".
وهذا بالذات ما يفعله الأستاذ محمد الدجاني البالغ من العمر 68 عامًا من خلال حركته "الوسطية" التي أسّسها في عام 2007، والتي شارك من أجلها أيضًا في مشروع البحث الثلاثي. تكمن أهداف هذه الحركة في: تفسير القرآن تفسيرًا ليبراليًا، وفي حلّ الدولتين والاعتراف بدولة إسرائيل والحوار وكذلك في معرفة تاريخ الآخرين. ويقوم أعضاؤها بتنظيم ورشات عمل، يدعون فيها من أجل التسامح والحوار. وكذلك تقيم هذه الحركة في كلّ عام مؤتمرًا، تدعو إليه ممثّلين عن الشعبين والأديان وكذلك بعض السياسيين.
والأستاذ محمد الدجاني يعرف أيضًا أنَّ مثل هذه الآراء لا تتمتّع بأية شعبية في فترات يصبح فيها المتطرّفون في المنطقة على كلا الجانبين أصحاب اليد العليا. وحول ذلك يقول: "لكن مثل هؤلاء الأشخاص يبقون مرتبطين بالحاضر. ولذلك فأنا أستثمر في المستقبل".
ومع ذلك فإنَّ هذا الرجل الهادئ كان في الماضي صاحب فكر متطرّف: فعندما كان محمد الدجاني طالبًا في بيروت، كان عضوًا عاملاً في حركة فتح ومسؤولاً عن الدعاية. وفي هذا الصدد يقول: "في تلك الأيَّام كانت توجد فقط فكرة الدولة الفلسطينية العلمانية الموحَّدة. لقد كنا غير مرنين لا نقبل التصالح وكنا نفتخر ونشيد بأنفسنا".
الإعراض عن حركة فتح
وبسبب نشاطاته السياسية، قامت الحكومة اللبنانية في عام 1975 بإبعاده إلى سوريا. ثم حاول في وقت لاحق العودة بجواز سفر مزيّف، بيد أنَّ هذه المحاولة باءت بالفشل. وبقي محافظًا طيلة ثمانية أعوام على يمين الولاء من دون قيد أو شرط لحركة فتح، مثلما يقول: "حتى ذلك اليوم الذي عرفت فيه مدى فساد هذه الحركة ومدى المحسوبية الموجودة فيها". وعندها استقال من حركة فتح وتابع مسيرته الأكاديمية في الولايات المتّحدة الأمريكية. وفقط في عام 1993 تمكّن الأستاذ محمد الدجاني الداودي من العودة إلى القدس بفضل تأشيرة للمّ الشمل الأسري.
لقد جعلت التجارب الشخصية في المقام الأول من هذا المتشدّد السابق داعية سلام مقتنع. وحول ذلك يقول باختصار: "لقد شاهدت مرارًا وتكرارًا كيف كان يتم حلّ المشكلات الصعبة في الحياة اليومية مع الإسرائيليين من خلال الحوار". وكذلك يقول إنَّ معرفة الماضي هي التي تؤدّي إلى التفاهم.
يربط الأستاذ محمد الدجاني بين الزيارة إلى مدينة أوشفيتز والحرب الأخيرة في غزة - هذه الحرب التي خلقت الكراهية من جديد وأشعلها السياسيون: "من أهم الدروس التي تعلمها الطلاب المشاركون في الزيارة إلى أوشفيتز أنَّ الهولوكست لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل لقد كان نتيجة عملية دعاية معادية للسامية". وقد عمل ذلك - مثلما يقول - على تجهيز الأرضية لإبادة شعب.
ولهذا السبب من المهم للغاية - بحسب رأيه - أن يتم دعم القوى المعتدلة: يجب علينا مخاطبة شرائح الفلسطينيين الذين "يغضبون بصمت من معاناة أبناء وطنهم في غزة بسبب سياسة حماس". وكذلك مخاطبة الأشخاص الذين يتفهّمون في إسرائيل رغبات الفلسطينيين.
وعلى الرغم من أنَّ الأستاذ محمد الدجاني يصف نفسه بأنَّه متفائل عنيد، لكنه مع ذلك لا يريد أن يؤسّس حزبًا "وسطيًّا" خاصًّا به كبديل. وفي هذا الصدد يقول إنَّ الفلسطينيين لا يزالون غير ناضجين من أجل ذلك، ويضيف: "لن أعيش حتى أرى ذلك". ولكنّ هناك سببًا يبعث على الأمل في خروج جيل جديد يحمل وجهة نظر أكثر انفتاحًا. يتجلى هذا الأمل في الطالبة زينة بركات. فبعد زيارتها إلى أوشفيتز كتبت ما يلي: "لقد تصدّع جدار الجهل"، وربما سينهار تمامًا في يوم ما.
أولريكه شلايشر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: قنطرة 2014