هل أسس الملك السعودي عبد الله لنهج إصلاحي في بلاده؟
خلال زيارة إلى المملكة العربية السعودية في شهر آذار/ مارس 2010، شاهدنا بُعيد وصولنا ملصقاتٍ كبيرةً ملفتةً للنظر تمجِّد الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي تـُوفَّى يوم في 23 / 01 / 2015 إثر معاناته من التهابٍ رئوي، وذلك باعتباره "ملك الإصلاح" في بلاده. هذا الوصف يُفاجئ المراقب الأوروبي للوهلة الأولى، ويبدو مبالَغًا به نظرًا للنظامين الاجتماعي والسياسي المحافظين في المملكة العربية السعودية، لا بل وربما يبدو ساخرًا. ألم يسُد أيضًا في عهد الملك عبد الله الفصل بين الجنسين، الأمر الذي جعل النساء مواطناتٍ من الدرجة الثانية، أولم تـُنفَّذ عقوباتٌ مروِّعةٌ كذلك، مثل الجَلْد وقطع الرقاب في العلن وفي الساحات العامة مع تعليل ذلك بالشرع الديني، بغية معاقبة الخطايا المنافية للأخلاق الجنسية المحافظة في البلد، أو لإسكات الأصوات السياسية والدينية غير المرغوبة؟
هذه التجاوزات وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان الكثيرة الأخرى لم تكُن وليست على الإطلاق استثناءات في المملكة العربية السعودية ولا بدَّ من فهمها – في بعض الأجزاء على الأقل – باعتبارها تعبيرًا عن فهم الذات السعودية تحت رعاية العائلة المالكة، وهو فهمٌ يتم تطبيقه على سبيل المثال عبر الانعزال عن القيَّم الليبراليَّة "الغربيَّة" كالمساواة بين الجنسين، والفصل إلى حدٍّ بعيدٍ بين الدين والدولة، وتنظيم السياسة والمجتمع بشكلٍ ديمقراطي.
"ملك الإصلاح"
بيد أنَّه من المفترض أنْ يتضح للزوار سريعًا أنَّ منح الملك عبد الله لقب "ملك الإصلاح" غير الرسمي إلى جانب اللقب الرسمي للعاهل السعودي باعتباره "خادم الحرمين الشريفين" مكة المكرمة والمدينة المنورة، لا يأتي تمامًا من فراغ، فالمدخل إلى هذا الوضوح يكمن في التفصيل التدريجي لفهم الذات السعودية التي يمكن رسم خطوطها العريضة – بشكلٍ تقريبيٍ – بمساعدة ثلاثة عناصر مختلفة:
إرادة آل سعود المطلقة في البقاء في السلطة، وحرصهم على التمسُّك بالتقاليد والقيَّم المحافِظة من جهة، والسعي في ذات الوقت لتحديث وانفتاح البلد من جهة أخرى، بكلِّ ما في ذلك من تناقضات.
وبينما أثـَّرت إرادة الاحتفاظ بالسلطة بالدرجة الأولى على سلوك العائلة المالكة وعلى النخب الاقتصادية والسياسية والدينية التي اختارتها العائلة، لم تؤثر نوايا المحافظة [على التقاليد] ونوايا التحديث فقط على منهج الملك عبد الله السياسي، بل إنَّها ظلت تؤثر على واقع مصالح أجزاء واسعة من المجتمع السعودي حتى يومنا هذا.
السياسة الواقعية
إذًا، عند مراعاة العوامل الثلاثة نجد أنَّ فترة حكم "ملك الإصلاح" متميّزةٌ أيضًا بالقدرة العالية على استشعار أهمية السياسة الواقعية، أي مراعاة مصالح العائلة المالكة – وعلاقات التنافس القائمة ضمن العائلة –، مقابل المصالح الوهابية الدينية المحافظة الخاصة برجال الدين وأجزاءٍ من الشعب، ومقابل مطالب القوى الاجتماعية المعتدلة والمجتمع الدولي على حدٍّ سواء، التي كانت تـُعدُّ على الأقلِّ أجزاءً من حسابات العاهل السياسية أيضًا، تمامًا مثل استخدام المغرفة الذهبية – سياسة الريال السعودي – واستخدام إجراءاتٍ قمعيةٍ شديدةٍ حال ما يرى الملك والمقرَّبون منه أيَّ تشكيكٍ بشرعية سلطة العائلة المالكة.
المحافظة والتحديث
اعتمدت سياسة الملك عبد الله الإصلاحية مذهبي المحافظة والتحديث عبر إنجاز خطواتٍ صغيرةٍ في أغلب الأحيان، أو اتخذت أشكالاً محدودةً في مرَّاتٍ عديدةٍ على طريقة "خطوتان إلى الأمام – خطوة إلى الوراء": وهكذا فإن الملك عبد الله عبر تأسيسه "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنيَّة" (كاوست) لم يبرهن على معرفته بضرورة إعداد المملكة لعصر ما بعد النفط وحسب وإنما فتح أيضًا المجال أمام النساء والرجال لإجراء أبحاثٍ مشتركةٍ ضمن مشاريع تقنيةٍ وعلميةٍ.
كما سُمِح للنساء بقيادة السيارات على أرض جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنيَّة – كلا الإجراءين قوَّض الفصل الصارم بين الجنسين، الذي يجري فرضه في بقيَّة أنحاء البلد بوسائل بعضها فظٌ للغاية. إنَّ تخفيف الفصل بين الجنسين في "معرض الرياض الدولي للكتاب" سنة 2010، وتعيين أعضاء نساء في مجلس الشورى السعودي سنة 2014 -اللاتي يشار إليهن أحيانًا على أنَّهن "نمورٌ بلا أسنان" -، ومجلس الشورى هو هيئة استشارية تشبه البرلمان، تمت زيادة عدد أعضائه أيضًا سنة 2014، وتعيين نورة الفايز في منصب نائب وزير التربية والتعليم لشؤون تعليم البنات، ما هي سوى أمثلة أخرى على نهج الإصلاح التدريجي الذي اعتـُمد في عهد الملك عبد الله.
هذه وغيرها من التدابير جلبت للملك سمعةً واحترامًا كبيرين لدى الناشطين السعوديين من أجل حقوق المرأة، وعزّزت صورته باعتباره ملكًا إصلاحيًا.
الحوار الوطني
إنَّ إنشاء "مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني" سنة 2003، الذي يعود فضل إقامته إلى حدٍّ كبيرٍ إلى وليِّ العهد الأمير عبد الله (آنذاك) على خلفية الأزمة السياسية العميقة والمتعلقة بهوية المملكة في أعقاب الهجمات الإرهابية الإسلاموية في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وهجمات أخرى على الأراضي السعودية، يمكن اعتباره إجراءً إصلاحيًا آخر.
كما أتيح المجال للمرة الأولى في تاريخ المملكة العربية السعودية لتبادل وجهات النظر حول القضايا الاجتماعية الملحَّة بين ممثلي فئاتٍ اجتماعيةٍ ومذهبيةٍ محليةٍ مختلفةٍ. ولم يكُن هناك خوفٌ من تناول "القضايا الساخنة" في إطار اللقاء الأول ضمن المنتدى، حيث جرى على سبيل المثال النقاش علنًا في مواضيع مثل علاقة الإسلام "الوهابي" الذي ترعاه الدولة بالتطرُّف الديني، وفي قضايا التعايش بين السُّنَّة والشيعة في المملكة، وفي مكانة المرأة الاجتماعية.
وعلى الرغم من أنَّ التوصيات التي كانت تتم صياغتها في نهاية كل اجتماع، والتي كانت توجه للملك، لم يكُن لها وليس لها صفة الإلزام بأيِّ حال من الأحوال، إلا أنَّ المناقشات كان لها تأثيرٌ تجاوز حدود الاجتماعات الفعليَّة بفضل التغطية الإعلاميَّة الواسعة، وتعميم اللقاءات وإجرائها في كلِّ أنحاء البلد. وفي الوقت نفسه، يمكن فهم الاجتماعات باعتبارها انعكاسًا للتفاعل بين نهجي المحافظة والرغبة بالتحديث في المجتمع السعودي: إنَّ مسألة تحديد ماهية الأمَّة السعوديَّة والرغبة في الحفاظ على قيمٍ ذات أساسٍ دينيٍ باعتبارها ميِّزات الأمة السعودية ودولتها، والانفتاح في الوقت نفسه على التأثيرات الخارجية، تقع في صميم مناقشات مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني.
عبر مبادرة الحوار الوطني أظهر الملك عبد الله في الوقت ذاته دقة إدراكه لواقع مزاج الشعب السعودي، في ضوء التطورات السياسية القائمة في خضم التحولات العربية منذ سنة 2011، وكذلك نظرته الاستشرافية فيما يخصُّ توطيد الاستقرار وترسيخ سلطة العائلة المالكة في المملكة. ويتبع هذا المنطق أيضًا اختيارُ خلفه الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز، الذي يعدُّ معتدلاً ومنفتحًا على الإصلاحات.
مينو برويشافت
حقوق النشر: موقع قنطرة 2015
مينو برويشافت، باحثٌ في مركز الفقه الإسلامي في جامعة مونستر، حازت أطروحتُه التي تناولت موضوع "الحوار الوطني" في المملكة العربية السعودية سنة 2014 على جائزة الأطروحة من الجمعية الألمانية لدراسات الشرق الأدنى، وقد نشرتها دار إرغون للنشر.