كشف الأسرار عن بيوت الأيزيدية في العراق
لعل أشهر ما شاع عن أسرار الأيزيدية بين أهل العراق وأهل غرب الشام هو أنهم يقتلون خصومهم سرا خنقا، لذا سماهم البعض الخناقون، لكن هذا بعيد تمام البعد عن الحقيقة، وإنما شاع ما شاع عنهم لأنهم يمارسون طقوس عبادتهم في مكان واحد وحيد بعيدا عن عيون الناس من أتباع الديانات الأخرى، وبعيدا عن فضول وسائل الإعلام. فوق ذلك، فإن ديانتهم غير تبشيرية، أي أنّ الأيزيدي يكتسب ديانته بالولادة. كما أن الأيزيدية لا تمتلك كتابا يوثّق أحكامها وتأملاتها وأفكارها الميتافيزيقة.
كسر للتابو بإقرار حق الوجود
حكومة إقليم كردستان العراق، كسرت التابو المفروض على هذه الديانة، حين أقرّت رسميا حق هذه الديانة في الوجود وعيّنت مديرا عاما لشؤونها في وزارة أوقاف الإقليم بأربيل عاصمة الإقليم. ومنه بدأت رحلتي، فكان حقا عونا كريما للصحافة.
في اليوم التالي انتظرني أحد أعيان مجمّع شاريا للأيزيدية قرب محافظة دهوك شرق كردستان العراق، ليقلني بسيارته الخاصة الى المجمع، فبدأت مسيرة كشف الأسرار من بيوت الأيزيدية.
مجمّع شاريا هو جزء من خطة نظام صدام حسين في تغيير ديموغرافيا المناطق الكردية، وقد أنشئ عام 1988، مع بدء عمليات الإبادة الجماعية بحق الكرد والموسومة بعمليات الأنفال.
المجمع ضم سكان سبع قرى أيزيدية، أزيلت قراهم وبيوتهم بالجرافات، ونقلوا مع خفيف أشيائهم بالقوة الى هذا المجمع. وهو يشبه الى حد ما معسكرات الاعتقال النازية، وكان أصعب تحد واجهه سكان شاريا هو العثور على عمل، بعد أن فقدوا أراضيهم الزراعية.
مجتمع طبقي غير محافظ
اليوم، يعمل أغلب سكان المجمع البالغ عددهم 12 ألف نسمة في دهوك أو في المدن القريبة منه. جولتنا بدأت في قاعة المناسبات بالمجمع، واسمها "هولا لالش" . في القاعة المؤثثة بشكل أنيق أقيم مجلس عزاء جلس فيه الرجال يتبادلون التعزية بوفاة أحد سكان المجمع. البعض يرتدي ملابس أوروبية، فيما يرتدي قلة من الحضور اللباس الكردي التقليدي.
تحدث إلينا بتحفظ "بير" المجمع (وهو رجل الدين، حيث يقسّم رجال الدين عندهم إلى 3 مراتب: بير وشيخ ومريد)، كاشفا أنّه يقوم بواجب الحضور العبادي في مجالس العزاء في العادة، ولا دور له في الأعراس وحفلات الزفاف، لاسيما أنّ تقاليد الزواج عندهم لا توجب إجراء عقد زواج ديني، فالجميع يتزوجون بعقود زواج مدنية تتم في المحاكم.
أحد الحاضرين كشف أنّ هذا التصنيف الاجتماعي يشمل كل الأيزيدية، فهم يقعون ضمن واحدة من هذه الطبقات، والرجل من طبقة البير لا يتزوج إلا امرأة من طبقة البير، وهكذا يكون الأمر مع الشيخ ومع المريد.
يختن الأيزيدية أبناءهم الذكور كما يفعل المسلمون واليهود، ولا تستوجب المناسبة حضور رجل دين، كما أنّ يوم الأربعاء مخصص لعبادتهم لأنه في عقيدتهم يوم خلق الكون، وهو يستوجب أن يعطّل الناس أشغالهم، لكن هذا ليس بالأمر الحتمي.
أحد الحاضرين أضاف معلومة بالقول:" لو أُتيح للأيزيدية أن يختاروا يوما لعطلتهم لاختاروا الأربعاء وقعدوا فيه عن الشغل".
طعام لذيذ في بيت أمين إسماعيل الأيزيدي
يتبع الأيزيدية طريقة طريفة غير معلنة لتمييز أصدقاءهم الحقيقيين عمن يكفّرونهم، فهم يقدمون للضيف طعاما طبخوه بأنفسهم، فاذا أكل الضيف من هذا الطعام، فهو صديق صدوق لهم، وإن لم يفعل، فهو ممن يكفرونهم ويرون طعامهم حراما. وهكذا فقد أصرّ الأيزيدي الكريم الذي ينقلني ويرافقني بسيارته الخاصة على أن نتناول الطعام في بيته.
في البيت استقبلتنا زوجته بوجه باسم، وصافحتني بحرارة وهي تدعوني إلى بيتها. نساء الأيزيدية لا يرتدين أي حجاب. ثم جاء أبناؤه وأخوه، وجالسونا على مائدة عامرة بلذيذ الطعام، بيتهم جميل بسيط أنيق التأثيث، يشبه بيوت العراقيين من الطبقة الوسطى في كل شيء.
على الجدار صورة للزعيم الكردي الراحل الملا مصطفى البارزاني، وصورة لجد مضيفي بملابس البيشمركه (مقاتلو الكرد الثائرون). جلسنا نأكل دون أن تأتي زوجة مضيفي لتشاركنا الطعام، سألت أمين إسماعيل، هل تمتنع نساؤهم عن مشاركة الرجال مائدة الطعام، فنفى ذلك، مؤكدا لي بأن زوجته كان يمكن أن تجالسنا، لكنها تناولت طعامها مع الصغار في وقت مبكر.
في غرفة الضيوف جسلنا نشرب الشاي فيما أخذ الأبناء يروون لي قصصا عن مدرستهم. قصصهم فتحت شهيتي لزيارة المدرسة.
بطلة أولمبية في مدرسة مزكين
لم أتخيل أن تكون مدرسة مجمع شاريا الأيزيدي المتخفي بين الوديان في أقصى شمال شرق العراق مدرسة مختلطة. المدرسة تتدرج من الصف الأول إلى الصف التاسع بموجب نظام التدريس الأساسي في إقليم كردستان والذي يختلف عن نظام التدريس في المدن العراقية خارج الإقليم.
ما إن وطأت قدماي عتبة مدرسة "مزكين" حتى تغيّر انطباعي عن الأيزيدية باعتبارهم شعبا بدائيا، فالمدرسة فسيحة واسعة، وفيها ملاعب عدة، وتضم مبانيَ عدة، كما أن طرق التدريس فيها تتبع نظما حديثة ومتقدمة عن المدارس خارج الإقليم.
أهم ما لفت نظري أنّ الدراسة مختلطة، وتستمر كذلك في المدرسة الإعدادية للصفوف العاشر والحادي عشر والثاني عشر، واللغة المستمعملة في التدريس هي الكردية، باستثناء درس اللغة العربية. دخلت أحد الصفوف ليحدثني معلم اللغة العربية في المدرسة والذي يمارس التعليم من 43 عاما عن التعليم الإلزامي الذي تخضع له المدرسة الأساسية. ويقول المعلم إنه نظام يُلزم التلميذ بالتعلم حتى الصف التاسع، مشيراً إلى أن نظام التعليم الإلزامي يطبق في باقي مدن العراق حتى الصف السادس ابتدائي.
أما السيدة غزال إسماعيل التي تدرّس الفنون، فذهبت إلى أنّ الطلبة إناثا وذكورا، يميلون إلى درس الرسم، وترى أنّ بعضهم يمتلكون موهبة ليكونوا فنانين.
إلهام صالح حسين، البالغة الثامنة عشرة من العمر والتلميذة في الصف التاسع، فُصلت من المدرسة لتغيبها ورسوبها المتكرر، وهي تحضر كتلميذة خارجية. اهتمام إلهام بالرياضة صرف انتباهها عن باقي الدروس، وقد أحرزت كأس إقليم كردستان في بطولة الطفر العريض لبطولة حلبجة. تتحدث إلهام بهمس خجول عن طموحها بأن تشارك في بطولة على مستوى كل البلد، مؤكدة أنّ ظروفها العائلية لا تسمح لها، ومشيرة الى أنها تحضر إلى المدرسية بعد أن فُصلت منها ليتاح لها أن تُمارس الرياضة فيها.
عن الكحول و "كريف دم"
في نهاية يومي الطويل مع الأيزيدية وفي طريق العودة، لفت نظري محل أنيق الواجهة، توقفت عنده فدعاني صديقي الذي يرافقني إلى أن أنزل لأرى ما في المحل، نزلنا فاذا هو محل لبيع الخمور، وقد اصطفت زجاجات المشروبات الكحولية من مختلف المناشئ على الرفوف.
وخطر لي أن أسال صديقي، ما هو موقف الديانة الأيزيدية من الخمور. فأجابني دون تردد: "الخمرة محرّمة، لكن من شاء أن يشربها، فذنبه على جنبه، سيحاسبه الرب على مافعل، أما الناس فلا يتدخلون في علاقته بربه، من هنا لا أحد يمنع بيع المشروبات الكحولية".
أمام محل بيع الكحوليات وقف "نادر خمو" وهو ناشط مدني ومؤسس منظمة الصداقة للتعايش في دهوك، وحدثنا بإسهاب عن طقوس الختان شارحا فكرة "كريف دم" المتعلقة بالختان وما يرافقها من احتفالات وأفراح ، كما شرح طقوس ذبح الحيوانات في أوساط الأيزيدية مبيّنا أن من لم يختن لا يحل له أن يذبح أي حيوان.
ملهم الملائكة/ العراق- دهوك- مجمّع شاريا الأيزيدي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014