المواطنة.. والحريات
![A child holds a photo of Ahmad Al-Sharaa, appointed Syria's transitional president as daily life continues in the Hama city center. (Photo: picture alliance / Anadolu | Bekir Kasim) A child holds a poster of a man with suit.](/sites/default/files/2025-02/505146641_syria_samir-aita-final-version.jpg)
استمرت معاناة المجتمع السوري سنين طويلة. إن قدرته على التحمل والصبر مُلفتة، مثله مثل مجتمعات بلاد الشام الأخرى في فلسطين ولبنان. لقد عانى الشعب السوري ضيق العيش وندرة سبل كسب الرزق لأسباب تتعلق بالعقوبات والتسلط والصراع وأمرائه على السواء. لكن ما زرع الأمل ودفع للصبر على المشقات كان كلمتين كثيرًا ما يتم تغييبهما عن المشهد. كلمتان جوهريتان هما: المواطنة والحريّة.
المقصود بالمواطنة هو المساواة التامة بين أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، بعيدًا عن أطروحات الأغلبيّة والأقليّة، والتوازنات بين "المكونات". فما معنى "أغلبية"؟ وهل يُمكن فرض ما يتمّ اعتباره أنّه رغبتها في دستور دائم أو في إعلان دستوري أو على خطة طريق مستقبلية؟ ولكن هل رغبتها هي أصلا واحدة؟ ولا فروقات جوهرية في مدلولها بين ثقافات وتيارات فكريّة حضرية ومناطقيّة قديمة وحديثة؟
لقد عملت الحركة الصهيونيّة منذ التقسيم الأوّل لفلسطين على جلب مستوطنين كي يصبحوا تدريجيًا أغلبية للسكان على الأرض التي احتلتها وكي تطرد السكان الفلسطينيين الأصليين من أرضهم، الذين ربّما كان أجدادهم يهودًا ثم مسيحيين قبل أن يعتنق معظمهم الإسلام. كلّ هذا في سبيل فرض طبيعةٍ يهوديّة للدولة، طبيعة "الأغلبية"، بحيث لا يُمكن لغير اليهود أن يعيشوا فيها سوى كمواطنين من الدرجة الثانية وفي ظل نظام تمييز عنصري، "أبارتايد".
بالمقابل، نشأت جميع حركات التحرر في بلدان المشرق العربي على المناداة بأن "الدين للّه والوطن للجميع"، في سباق العمل على تبنيه بين مصر وسوريا، أيّ أن الوطن لكلّ مواطنيه بغضّ النظر عما كان ما يعتنقونه من أديان ومذاهب.
وقد أتى هذا بالتحديد لمواجهة التلاعب الاستعماري الغربي الذي أنهك الدولة العثمانية بحجج حماية الأقليات ولمواجهة المشروع الصهيوني. هدف وطني ليس سهلًا في بلاد تعرف منذ الأزل تنوّعًا دينيًا ومذهبيًا وعرقيًا ومناطقيًا، على عكس كثير من الأوطان الأوروبيّة وغيرها. ولكن لا مستقبل لوطن كأوطاننا دونه. وما زالت ذاكرة كبار السن بيننا تحفظ أنّ قادة فترة التحرر كانوا يتوجّهون للمجتمع بداية بتعبير "أيها المواطنون... أيتها المواطنات".
![سمر عبد المجيد في دمشق. (Photo: Qantara | Andrea Backhaus) سمر عبد المجيد تجلس على كرسي في ساحة الشهداء في دمشق.](/sites/default/files/styles/uv_image_16_9/public/2025-01/backhaus-samar-abd-al-majid_2.jpg?itok=mVVR3lpP)
أين أحمد؟
يشعر أهالي السوريين المختفين قسريًا بتخلي الحكام الجدد عن قضيتهم بعد سقوط الأسد. فيما يتجول بعضهم في شوارع العاصمة دمشق بحثًا عن أحبائهم وسط ضياع الأدلة.
انحراف عن أهداف الانتفاضة الشعبيّة
لقد فرح جميع السوريين والسوريات بسقوط استبداد الأسد وتأملوا بالوعد بمرحلة انتقالية على أسسٍ تشمل الجميع، وتنهي معاناتهم المعيشيّة وتعيد التعافي الاقتصادي وتصنع مستقبلًا زاهرًا وتعيد توحيد البلاد وسيادتها على كل أراضيها. إلا أن الوعد كان يستحق أن يتضمن بشكل أوضح وأصرح صون الحريّات العامّة والخاصة. "حرية للأبد…"، هتفت بها حناجر تظاهرات الأيام الأولى ضد الاستبداد ودُفِعَت من أجلها أثمان كبيرة قتلاً أو في السجون والمعتقلات.
الوضوح بشأن الحرية والحريات ضروري، خاصة وأن هناك اليوم ممارسات للسلطة التنفيذية المؤقتة توقِف وتعيق أعمال الجمعيات الأهلية، بما فيها تلك التي تأسست منذ نهاية القرن التاسع عشر، التي حمت وساعدت المجتمع على الصبر والتحمل والمعيشة، خاصة في مناطق سيطرة الاستبداد التي لم تحصل على دعم المنظمات غير الحكوميّة الممولة خارجيًا، كما في المناطق الأخرى. هذه الجمعيّات الأهلية تشكل لبنة المجتمع السوري ووسيلة تعاضد فئاته في زمن الأزمات وتجاه المصائب، وهي ما زالت ضرورية اليوم بما أن التعافي الاقتصادي والمعيشي سيكون حُكمًا بطيئًا.
كما أن هناك ممارسات تضيق عمل النقابات المهنية، كنقابة المحامين وغيرها، وتسمي قيادات لها من خارج مناطقها. في حين تجِب صيانة حرية العمل النقابي والتخلص من آثار الاستبداد الذي هيمن طويلاً عليه بغية بناء الدولة بشكل سليم.
وتمّ حلّ جميع الأحزاب والكيانات السياسية، بما فيها حزب البعث، وكذلك حلّ جميع "الأجسام الثوريّة السياسية والمدنيّة". ولم يرافق هذا الحل توضيح طبيعة الحريات السياسية في المرحلة القادمة وإمكانية تشكيل وترخيص أحزاب سياسيّة جديدة، كي تتضّح آلية الحوار الوطني الذي سيعمل على وضع أسس الدستور الجديد، والأمر نفسه بالنسبة للمنظمات المدنية.
وهذا يصطدِم مع واقع أن هناك أحزابًا سياسية ومنظمات مدنية تم تأسيسها في الخارج وتلقي دعمًا ماديًا ومعنويًا من قوى وفعاليّات خارجية. ستظل هذه الأحزاب والمنظمات وحدها فاعلة لأهمية هذا الخارج في مسار رفع العقوبات والتطبيع مع المجتمع الدولي. وما يعني أن الأحزاب المؤسسة داخليًا أو التي تحاول التأسيس الآن ستعاني من هذه القرارات والممارسات. وما يعني واقعيًا انحرافًا في الحياة السياسية السورية لصالح الخارج، مع مخاطر صراعاته البينيّة التي تبدو واضحة منذ الآن في العودة إلى مقولاته القديمة في حماية "الأقليات" بدل حماية الحريّات.
اللافت أن هناك أيضًا ممارسات مماثلة فيما يتعلق بالحريات الاقتصادية التي وضعتها السلطات الجديدة أحد أهدافها الأساسية. إذ يُطلب من كافة الشركات إعادة تسجيل نفسها بحجة أن بعضها وهمي خلقه النظام السابق. ويتم ذلك حتى فيما يخص الشركات المؤسسة منذ أربعينيات القرن الماضي!
تعافي سوريا ليس سهلاً
ناهينا عن التباطؤ في إنشاء آليات عدالة انتقالية ومصالحة اجتماعية، مما قد يشوش أجواء الارتياح العام بأن إسقاط الاستبداد تم سريعًا ودون تكلفة بشرية باهظة، ولا يساعد ذلك التباطؤ في تجنب الانتقام والتجاوزات هنا أو هناك.
لقد فَرح جميع السوريين والسوريات بسقوط سلطة الاستبداد لأنهم بالتحديد يحملون آمالًا بالحريات العامة والفردية. وما زالت ماثلة في أذهانهم كيف أطلق بشار الأسد بعض الحريات العامة عند وصوله إلى السلطة بحيث عاشت سوريا حينها ما سمي "ربيع دمشق".
وكان قمع هذه الحريات سببًا رئيسيّا في رفض مقولته حينها "الإصلاح الاقتصادي قبل الإصلاح السياسي". رفض كان في مكانه لأن الإصلاح الاقتصادي لم يأت حقًا، بل "رأسمالية الأصدقاء والأقرباء" التي كانت أحد الأسباب الرئيسية لانتفاضة المجتمع السوري سنة 2011.
إن السوريين والسوريات يعرفون جيدًا أن مسار تعافي سوريا ليس سهلًا ولا بد من تجاوز مصاعب عديدة داخلية وخارجية. وهم يعون جيدًا أن تحقيق ديمقراطية حقيقية يتطلب وقتًا. إلا أنهم يأملون أن يعتمد مسار التعافي جوهريًا الحرية الفردية والحريات العامة والاجتماعية والمواطنة، لأن هذا ما يحصّن مسار التعافي والبناء القادمين.
المواطنة والحريات هي جزء من كرامة المجتمع السوري، مثلها مثل سبل العيش والعمل والحياة.
نُشر المقال لأول مرة في جريدة الشروق المصرية
قنطرة ©