ألمانيا تتأرجح بين دعم إسرائيل وتطبيق القانون الدولي
ما يحدث حالياً في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أشبه بفيلم مثير. فهناك مدعٍ عام يريد إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية عاجلاً وليس آجلاً. وهناك قضاة يتعين عليهم البت في هذا الأمر، ولكنهم لم يفعلوا ذلك بعد. وهناك بنيامين نتنياهو الذي صرح بثقة بأنه ليس هو من يجب أن يخاف، بل المدعي العام. وفي خضم كل هذا، تؤكد لنا الحكومة الألمانية أنها تقف إلى جانب إسرائيل، وكذلك إلى جانب القانون الدولي.
في نهاية شهر أغسطس/ آب، حثّ المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان القضاة على الاستجابة الفورية لطلبه بإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت، وكذلك قائدي حماس؛ يحيى السنوار زعيم الحركة ومحمد الضيف قائد القسام الجناح العسكري للحركة. وأسقطت المحكمة، الجمعة الماضية، إجراءاتها ضد إسماعيل هنية زعيم حماس السابق "بسبب تغير الظروف الناجمة عن موته"، خلال تواجده بإيران في 31 يوليو/تموز إثر هجوم نُسب إلى إسرائيل. وذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية، الأسبوع الماضي، أن القرار سيصدر "في غضون أيام أو بضعة أسابيع على الأكثر".
لقد حان الوقت بالفعل، فقد مر أكثر من ثلاثة أشهر منذ أن قدم خان طلبه في 20 مايو/أيار. وكتب خان إلى محكمته في نهاية أغسطس/آب قائلا: "إن أي تأخير غير مبرر في تلك الإجراءات يعرض حقوق الضحايا للخطر". وفي نهاية المطاف، فإن القضية تتعلق بجرائم حرب مزعومة وجرائم ضد الإنسانية في حرب غزة.
لم يسبق للمحكمة الجنائية الدولية، أن أصدرت مذكرة اعتقال بحق وزير في منصبه، ناهيك عن رئيس حكومة دولة ديمقراطية – حيث لا تزال إسرائيل في نظر مؤيديها. ويثير ذلك أيضًا السؤال الأوسع حول ما إذا كانت الدول الديمقراطية الغربية مهتمة حقًا بشكل عام بالتحقيق في جرائم الحرب، حتى لو ارتكبتها دول غربية أو حلفاء آخرون. وقد أظهر تصريح زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني فريدريش ميرتس في مايو/أيار الماضي، مدى صعوبة اعتراف بعض السياسيين الألمان بانتهاكات حقوق الإنسان، عندما قال إن اعتقال نتنياهو على الأراضي الألمانية سيكون بمثابة "فضيحة".
البيانات تغمر الجنائية الدولية
من ناحية أخرى، أعلنت الحكومة الألمانية، أنها ستدعم المحكمة الجنائية الدولية في هذه القضية - وهو أمر طبيعي في الواقع. وقالت خبيرة شؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة العفو الدولية في ألمانيا، كاتيا مولر-فالبوش، لـ"قنطرة"، "لكن فيما يتعلق بإسرائيل، لم يكن هذا هو الحال دائماً في الماضي بأي حال من الأحوال". ففي عام 2021، على سبيل المثال، عارضت ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم المحتملة المرتكبة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
تحقق المحكمة الجنائية الدولية في تلك الجرائم؛ باعتبار فلسطين دولة طرف في المحكمة، على الرغم من أن النقاش حول عدم وجود دولة فلسطينية حتى الآن- يعني أن مسألة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على الأراضي الفلسطينية لاتزال محل نزاع قانوني. ومن ناحية أخرى، إسرائيل ليست دولة طرف (عضو) في المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، ووفقًا للمادة 12 من نظام روما الأساسي، يجوز للمحكمة التحقيق في الجرائم المحتملة المرتكبة على أراضي دولة طرف بالمحكمة.
كجزء من إجراءات مذكرة التوقيف ضد نتنياهو وغالانت والسنوار والضيف، جرى إغراق الدائرة التمهيدية للمحكمة بأكثر من ستين بيانًا من دول وجهات فاعلة أخرى في الأشهر الأخيرة، مما أدى إلى تأخير الإجراءات إلى حد كبير. هذه البيانات الخارجية المعروفة باسم "أصدقاء المحكمة"، ليست نادرة في المحكمة الجنائية الدولية، ولكن لم يكن مسموحًا بها في السابق في سياق إجراءات مذكرة التوقيف.
ودعت ألمانيا، في 6 آب/أغسطس، المحكمة الجنائية الدولية إلى السماح لإسرائيل نفسها بالتحقيق في جرائم الحرب المحتملة في غزة أو منحها المزيد من الوقت للقيام بذلك على اعتبار أنها دولة دستورية ذات نظام قانوني فعال. وتشير الحكومة الألمانية في بيان أرسلته للمحكمة، إلى مبدأ التكامل بنظام المحكمة والذي ينص على ألا تتخذ المحكمة الجنائية الدولية إجراءات من تلقاء نفسها، إلا إذا كانت الدولة غير راغبة أو غير قادرة على ملاحقة الجرائم الجنائية الخطيرة بشكل جدي.
ما لا تريده دول الغرب من حليفتها إسرائيل في غزة
لنزاع إسرائيل وفلسطين واقع ميداني مناقض لصورة نمطية موجودة في عقول كثيرين بألمانيا والغرب. المحللة السياسية والكاتبة الألمانية كريستين هيلبيرغ تحدد سبعة استنتاجات غير مريحة لكثيرين بالغرب لكنها ضرورية للتهدئة بل وحل الصراع.
تختلف آراء فقهاء القانون حول ما إذا كان هذا هو الحال مع إسرائيل في الوقت الراهن. وحلّل كاي أمبوس، أستاذ القانون الجنائي الدولي والقانون الدولي العام بجامعة غوتنغن، الموقف الألماني في مقالة بـVerfassungsblog. وخلص إلى أن هناك "دعمًا قويًا وغير مشروط تقريبًا لإسرائيل، يقترب من أسبقية السياسة على القانون (...)". ويشكّ المراقبون في أن هذا تكتيك مماطلة لتجنب أو تأخير إصدار أوامر الاعتقال الوشيك. غير أن الحكومة الألمانية لا تريد المشاركة في هذا الأمر؛ "أرفض بشكل مباشر التلميح بأننا نحاول تأخير أي شيء في المحكمة الجنائية الدولية"، كما قال متحدث صحفي للحكومة في يوليو/تموز الماضي.
تستغرق الإجراءات الحالية بالفعل وقتاً طويلاً بشكل غير عادي: كقاعدة عامة، لا تمر سوى أسابيع قليلة بين طلب المدعي العام وإصدار مذكرة التوقيف أو وقف الإجراءات. في بعض الأحيان كانت ستة أسابيع، كما في حالة سيف الإسلام، نجل الديكتاتور الليبي السابق معمر القذافي، وأحيانًا ثمانية أسابيع. ويُظهر مذكرة التوقيف الصادرة بحق فلاديمير بوتين مدى السرعة التي يمكن أن تحدث بها الأمور عندما تتوفر الإرادة السياسية للدول المانحة؛ حين صدرت في غضون ثلاثة أسابيع - بعد أن دعم الاتحاد الأوروبي المحكمة الجنائية الدولية قبل فترة بأكثر من سبعة ملايين يورو للتحقيق في جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا.
المال وسيلة للنفوذ
ويُنظر إلى تمويل المحكمة الجنائية الدولية على نطاق واسع على أنه وسيلة للتأثير على المحكمة. وتقوم الدول الأطراف في نظام المحكمة بنفسها بتوفير الموارد المالية اللازمة. ألمانيا هي ثاني أكبر دولة مانحة للمحكمة، وبالتالي تلعب دورا هاما. وترى عالمة السياسة كورتني هيليبرخت في كتابها "إنقاذ نظام العدالة الدولية"، أن تقييد تمويل المحاكم الدولية يسمح للحكومات بالالتزام بالتمسك بالمعايير الدولية كأطراف (بنظام المحكمة)، مع الحفاظ على السيطرة من خلف الكواليس.
يعلق المحامي والمحاضر في القانون الجنائي الدولي بهامبورغ، مايول هيرامنتِه، لـ"قنطرة"، قائلا إن "مسألة من هو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الذي يحقق هي مسألة قانونية في المقام الأول. ومع ذلك، في أوقات الميزانيات المحدودة وعدم كفاية التعاون بين الدول، فهي دائمًا مسألة سياسية واستراتيجية أيضًا".
على سبيل المثال في عام 2016، دعت مجموعة تضم أكبر الجهات المانحة للمحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك ألمانيا، إلى خفض ميزانية المحكمة. وبرروا تلك الخطوة بالأزمة المالية العالمية، من بين أمور أخرى. وقبل ذلك بفترة وجيزة، قامت المدعية العامة آنذاك فاتو بنسودا بتسريع التحقيقات الأولية في فلسطين وأفغانستان. يقول جوناثان أودونوهيو، الذي عمل مستشارًا قانونيًا لمنظمة العفو الدولية، إنه من "السذاجة" بما كان عدم رؤية صلة هنا بين الأمرين، كما كتب في موقع Opinio Juris.
بدوره يقول المحامي الألماني هيرامنتِه: "يمكن أن تكون ميزانية المحكمة عنق الزجاجة بالنسبة للتحقيقات الجنائية". وفي تقرير نشرته مجلة حقوق الإنسان في عام 2023، كانت كيرستن أينلي وإريك ويبلهاوس-براهم أكثر وضوحًا حول مسألة تمويل المحكمة الجنائية الدولية،: "يبدو أن المحكمة تحت رحمة أهواء مجموعة من الدول التي تسعى إلى التلاعب بميزانيتها لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، بدلاً من تمويلها على النحو المطلوب للوفاء بولايتها".
حجر الزاوية في السياسة الألمانية
وتذهب الدول غير الأطراف بالمحكمة، إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إلى أبعد من ذلك لممارسة نفوذها على المحكمة. فقد أظهر تحقيق أجرته مجلة "972+" الفلسطينية-الإسرائيلية وصحيفة الغارديان البريطانية، أن إسرائيل تشن "حربًا سرية" ضد المحكمة الجنائية الدولية منذ سنوات. فقد تعرض الموظفون، بمن فيهم المدعية العامة السابقة بنسودا، للتجسس والتهديد من قبل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد". وعندما أعلنت المحكمة الجنائية الدولية في عام 2019 أنها تحقق في جرائم حرب أمريكية محتملة في أفغانستان، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المحققين. كما صوّت مجلس النواب الأمريكي لصالح فرض عقوبات في يونيو/حزيران بسبب إجراءات مذكرة التوقيف الحالية.
غير أن عدم تعاون ألمانيا وتسويفها لإجراءات المحكمة يعطي الانطباع بأنها عالقة في مأزق بين التضامن مع إسرائيل وتطبيق القانون الدولي. ويتضح ذلك أيضًا من خلال التصريحات الألمانية، كما في حالة الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، عندما أعلنت ألمانيا في بداية المحاكمة أن اتهامات الإبادة الجماعية لإسرائيل "تفتقر إلى أي أساس من الصحة".
وتحذر مولر-فالبوش خبيرة منظمة العفو الدولية من أن "ألمانيا بذلك الموقف تُضعِف مصداقية القضاء الدولي". وترى أن هذا الموقف يلحق ضررًا دائمًا بالسياسة الخارجية للحكومة الألمانية القائمة على حقوق الإنسان. وفي نهاية المطاف، "إن النظام القائم على القواعد، والولاية القضائية العالمية أيضاً، هو عنصر آخر من مبدأ الدولة الاتحادية، وحجر الزاوية في السياسة الألمانية".