حين ظهر الإسلام كنظام عالمي جديد
مات الإسكندر الأكبر في بابل سنة 323 ق.م وهو في الثانية والثلاثين من عمره، وبعدما حكم حوالي اثنتي عشرة سنة، تاركاً إمبراطورية عظمى، تضم أقاليم شبه مستقلة، تضم بلاده مقدونيا ودول المدن اليونانية وأجزاء من البلقان، وتمتد إلى هضبة الأناضول فبلاد الشام ومصر وبلاد الرافدين ومعظم بلاد فارس.
ونظراً لأنه لم يُعيّن خليفة له أو يوصي بوريث بعده، انقسمت إمبراطوريته إلى كيانات متنازعة، ودخلت في حروب متواصلة دامتْ أربعة عقود تقريباً، مما مكّن الفرس من التحرر من هيمنة السلالة الهلنستية الحاكمة، واستعادة الإمبراطورية الفارسية، وإن في حدود مجالها الحيوي المجاور، ضمن بلاد ما بين النهرين وشرق شبه الجزيرة العربية.
وإذا كانت الإمبراطورية الرومانية قد سيطرت على الإمبراطورية الإغريقية عسكرياً، فإن الثانية قد سيطرت على الأولى ثقافياً، على حد تعبير المؤرخ الشهير بول ديورانت.
"الرومان الخلّص" :"اعمل أولاً ثم تفلسف."
فمن المعروف أن الإمبراطورية الرومانية بُنيت على تعظيم القوة العسكرية، واعتمدت كثيراً على تجنيد العوام من الشعوب المغلوبة، التي جرى دمجها في العالم الروماني، بحسبان روما عاصمة كونية شمّالة الأقوام والأعراق والألسن، دون أن يلغي ذلك «احتقار الرومان (الخلّص) لكل ما هو خارج أنفسهم». كما كان احتقارهم للتفلسف شائعاً وراسخاً، معتنقين مبدأ: "اعمل أولاً ثم تفلسف."
وكانت رؤيتهم المؤسِسة لـ "نظام عالمي جديد" تعتمد تقسيم العالم إلى ثلاثة مستويات تنازلية: إيطاليا، اليونان، البرابرة. وفي مرحلة لاحقة جرى دمج المستويين الأول والثاني على إثر تبنى الرومان الثقافة اليونانية (الإغريقية). وتم إزاحة مفهوم البرابرة بمعناه الإقصائي المنبوذ، واعتماد مبدأ أن "جميع سكان الإمبراطورية الذين ولدوا أحراراً لهم الحق في المواطنية الرومانية." وبالنتيجة ورثتْ الإمبراطورية الرومانية مناطق هيمنة اليونانيين في الشرق القديم.
وهكذا تورطت قبائل العرب، وممالكهم الصغيرة في بلاد ما بين النهرين وشرق شبه الجزيرة العربية، في الصراع الحضاري/ الجيوبولتيكي بين الفرس والروم المتنازعين على مناطق النفوذ بينهما في بلاد ما بين النهرين وشرق شبه الجزيرة العربية.
العرب قبل أن يصهرهم الإسلام في مشروع حضاري
وعلى هذا الحال كان ملوك المناذرة القحطانيون الذين يحكمون العراق يوالون الفرس، فيما كان ملوك الغساسنة في بلاد الشام (وهم القحطانيون أيضاً) يوالون الروم. والطرفان القحطانيان (المناذرة والغساسنة) يسفكون دماء بعضهم البعض لحقب طويلة خدمة لأجندة أسيادهم المهيمنين من روم وفرس.
كان العرب في تلك الأزمنة، قبل أن يصهرهم الإسلام في مشروع حضاري إنساني كوني، مجرد قبائل متشرذمة خارج التاريخ. كان الفرس يعتنقون المجوسية الزرادشتية، التي تعود أصولها إلى الفلسفة الدينية للحضارة البابلية القديمة. وقد وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطوريات الإيرانية (الأخمينية والبارثية والساسانية) حيث يقدس أتباعها المجوس عناصر الطبيعة كالشمس والنار والماء (والنار على وجه الخصوص). ويؤمنون بثنويَّة ديمومة النزاع الوجودي بين إله الخير والنور "أهورامزدا" الخالق، وإله الشر والظُلمة "آهرمان" (كما هي المنازعة بين الله والشيطان في ديانة الإسلام). وفي النهاية ينتصر إله الخير "أهورامزدا" بما يفعله الإنسان من أعمالٍ صالحات تتغلب على روح الشَّر.
ولجهة الرومان أصبحتْ المسيحية، بعدما اعتنقها الإمبراطور قسطنطين، الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. وباتت عظمة الإمبراطور تمثيلاً أرضياً لعظمة الله ومشيئته من مشيئة الله. وأصبحت الموعظة الأساسية في التوجيه السياسي للرعية المسيحية تدعو:" كل فرد الى أن يخضع للسلطات العليا، إذ لا توجد سلطة ليست من الله، والسلطات القائمة أرادها الله. ولهذا من يقاوم السلطة إنما يقاوم المشيئة التي أرادها الله، ومن يخالفها يستجلب نقمة الله عليه. أتريد ألا تخشى السلطة؟ افعل الخير تنل رضاها. الحاكم هو خادم الله من أجل خيرك."
وعوضاً عن مقولة السيد المسيح الروحانية:" مملكتي ليست من هذا العالم." اختلقت الكنيسة مقولة "إن ممالك الدنيا هي من الله." و "إن للإمبراطورية حدودا وليس للكنيسة حدود." حيث "روما ليست خالدة لأن الله وحده خالد."
ائتلاف قبائل العرب في مواجهة جيش الفرس الجرار
وفي خضم ذلك الصراع الحضاري/ الجيوبولتيكي حدثتْ حادثة تاريخية مفصلية، بمفهوم الدلالة الإبستمولوجية، عندما توحدتْ القبائل العربية في ائتلاف عسكري واسع من قبائل العرب (في العراق والشام وشرق شبه الجزيرة العربية) لمواجهة جيش الفرس الجرار في موقعة ذي قار (بالقرب من الكوفة بالعراق) في معركة حاسمة وفاصلة ما بين قبلها وبعدها بالنسبة لوجود العرب. ودون التوقف عند تفاصيل أسباب وقوع المعركة استمر القتال ليومين دمويين لينتهي بهزيمة نكراء للجيش الفارسي.
ويذكر الإصفهاني في كتابه الأغاني أن النبي محمد قال عنها: "هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا." وقد اختلف الإخباريون العرب القدامى في تحديد زمن وقوعها نسبة إلى وقائع حياة الرسول محمد بن عبد الله. فاختلفوا في تحديدها ما بين يوم ولادته أو يوم جهره بدعوته أو بعد هجرته إلى يثرب أو عقب غزوة بدر. وفي كل الأحوال فإن منطق معنى قوله يحيل إلى موقف قومي صرف لا ذكر لدور الدين فيه.
انبثاق الإسلام بتصوره لنظام عالمي جديد
ثم انبثق الإسلام برؤية روحانية/ معرفية مُستجدة للإنسان والكون وخالقه. يحمل تصوره لنظام عالمي جديد، يتوجه للناس جميعا: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ." ـ سورة الحجرات ـ . وفي الحديث المنسوب للنبي محمد يدعو: "يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ."
أي أن القرآن ـ كما يقول المستشرق الكبير لويس ماسينيون ـ يمثل الدستور أو القانون المنزل لدولة فوق الأوطان، حيث مبدأ الإيمان هو أساس المواطنة، بمعنى " إنما المؤمنون إخوة." محمولاً (المبدأ الإيماني) على نزعة أممية إنسانية شمّالة للأديان والقوميات، إذ يدعو القرآن في بداية الدعوة بمكة: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم يوم القيامة." ـ سورة الحج.
وبالمنظور التاريخي الأبستمولوجي فإن فتح مكة كان فتحا (روحيا ـ حضاريا) برسم إعلان قطعي عن نهاية التاريخ. أي نهاية تاريخ الهيمنة الحضارية الرومانية ـ المسيحية، والفارسية ـ المجوسية، وقيام تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.
ومن هنا نفهم لماذا أرسل الرسول رسله، إلى هرقل الروم وكسرى الفرس مع غيرهم من حكام وعواهل، مثل المقوقس حاكم مصر والمنذر بن ساوى أمير البحرين وهوذة الحنفي أمير اليمامة والعباهلة أقيال (ملوك) حضرموت وعبد ابنى الجلندى حكام عمان والحارث الحميري حاكم اليمن والحارث الغساني أمير الغساسنة والنجاشي ملك الحبشة، تحت عنوان:" أسلم تسْـلم.".
لم يكن عندها عمر تأسيس دولة الإسلام الصغيرة في "المدينة المنورة" قد تجاوز الثلاث سنوات، وليس لديها من جيش حقيقي سوى نحو ثلاثة آلاف مقاتل بأسلحة بسيطة.
أرسل النبي محمد مبعوثاً خاصاً برسالة إلى الإمبراطور "عظيم الروم" هرقل (575 - 641) الذي تسيطر إمبراطوريته البيزنطية على نصف أوروبا الشرقي وجزء كبير من ساحل البحر الأبيض المتوسط الغربي، بما في ذلك مصر والشمال الإفريقي، علاوة على تركيا والشام.
عقيدة النصارى الآريوسيين المؤمنة بالتوحيد
كتب النبي العربي إلى هرقل عظيم الروم يدعوه بكل جرأة وثقة للدخول في الإسلام: "بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الرّوم. سَلامٌ على من اتّبع الهُدى. أمّا بعد. فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلِمْ تَسلمْ. يُؤتِك الله أجرَك مرّتين. فإن تولّيتَ. فإنّ عليك إثمَ الأريسيين." وإشارة الرسالة المحمدية إلى الآريوسيين يقصد بها النصارى كما يعرفهم العرب حينذاك، و"إثمَ الأريسيين" إشارة إلى ما تعرض له النصارى الآريوسيين على يد الكنيسة البيزنطية من اضطهاد بعد تكفير عقيدتهم المؤمنة بالتوحيد في بدايات القرن الرابع الميلادي.
والنصارى الآريوسيون هم أتباع القسيس آريوس (256–336م) أحد أبرز أساقفة الكنيسة المسيحية الناشئة حينذاك. وهو من أصل ليبي (بربري) استقر في الإسكندرية، وصار شماس كنيسة بوكاليا بالإسكندرية، وكان متأثراً بأفكار أفلاطون ومنطق أرسطو. لكنه كان، من حيث إيمانه الروحي/ الديني ينتمي إلى التصور الشرقي التوحيدي، مما جعله يرفض عقيدة ألوهية المسيح (اليونانية/ الهلنستية) التي ترى أن الابن مساوٍ للأب، وهي العقيدة التي كانت كنيسة الإسكندرية تدعو إليها في عهدة البابا الكسندروس الأول (250ـ326) بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
بشّر الشمّاس آريوس في كنيسة بوكاليا بعقيدته المسيحية المبنية على الفلسفة التوحيدية. بمعنى كما يقول: إن الله واحد. غير مولود وحده. سرمدى وحده. ليس له بداية وحده. هو الحقيقى وحده، الذي له الخلود وحده. وإن قدرته عامة وليست شخصية، عمادها: الحكمة والكلمة..
وسرعان ما شاعتْ وانتشرتْ تعاليمه حول الطبيعة اللاهوتية في المسيحية، الداعية إلى تفرّد الله/ الأب، وتبعية المسيح له، حتى أنها أصبحتْ الموضوع الرئيس المطروح للنقاش في المجمع الكنسي الأول الذي عقده الإمبراطور قسطنطين العام 325م في مدينة نيقية، الواقعة عند بحر مرمرة (في تركيا اليوم).
كما هو معروف رفض مجمع نيقية الكنسي تفسير أريوس لطبيعة يسوع، واعتمد معتقد الثالوث الذي يؤمن بتساوي الآب والابن في الجوهر والأبدية. وبالتالي عُدّ آريوس واتباعه المؤمنون بمعتقده خوارج على الكنيسة الحقة، وغدوا عرضة للنبذ والملاحقة والتنكيل، فلجأ قساوستهم ورهبانهم إلى تكوين كنائسهم الآريوسية بمناطق نائية آمنة في دواخل أوروبا وشمال أفريقيا وداخل شبه الجزيرة العربية.
ومن هنا نفهم كما جاء في القرآن معرفة النبي محمد بالنصرانية وقربه من عالمهم الروحاني ومحبته لهم، لا سيما أن ورقة بن نوفل الأسدي القرشي وهو ابن عم خديجة بنت خويلد، زوجة النبي محمد الأولى، كان قس كنيسة النصارى في مكة. ونجد في السور والآيات المكية تعلق حميم للنبي محمد بعيسى وتعاليمه:" وقفينا بعيسى بن مريم، وآتيناه الإنجيل، وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة." (سورة الحديد).
ثم تنزل آيات القرآن، بعدما تحالف يهود "المدينة المنورة" مع أعداء المسلمين من المشركين: "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا." بينما:" ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون." ـ سورة المائدة.
ويتردد في كتب الحديث وعند الإخباريين القدامى أن النبي محمد أرفق مع رسالته إلى عظيم الروم آيات قرآنية مختارة:" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ."
تفكير رغبوي لمن حبّره
أما ردّ هرقل على رسالة النبي محمد، فيبدو، من مضمون نصه، أنه مختلق من قبل الإخباريين لدواعي البروباغندا الدينية في تلك العصور. فلا وجود لأي وثيقة تاريخية تدل على حقيقة ردّ الإمبراطور هرقل على رسالة النبي. والواضح أن النص، الذي ينسبه كتبة الأحاديث والإخباريون القدامى إلى هرقل ردّاً على رسالة محمد، إنما هو مكتوب بلغة بلاغية تعكس التفكير الرغبوي لمن حبّره، لأنه لا يُعقل أن عقلية إمبراطور مسيحي عظيم الشأن، يحكم إمبراطورية مسيحية أرثوذكسية مترامية الأطراف بين أوروبا وأفريقيا وآسيا، يردّ كأنه قبل دخول الإسلام على الفور: "إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى؛ من قيصر ملك الروم، إنه جاءني كتابك مع رسولك، وإني أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك وأغسل قدميك."
ذلك ما حدث بعد وقت قصير
أما رواية تلقي كِسْرى الثاني (590 - 628) لرسالة النبي محمد فتبدو منطقية تماما في التفسير التاريخي. إذ لما قرأ حامل الرسالة (وهو عبد الله بن حذافة السهمي) رسالته بين يدي كسرى بلغة ترجمتها الفارسية: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك."
استشاط كسرى غضبا ومزق الرسالة صائحا في وجه المبعوث: "عبد حقير من رعيتي (يقصد النبي محمد) يكتب اسمه قبلي." فلما بلغ خبر تمزيق الرسالة إلى الرسول محمد قال "مزق الله ملكه". وذلك ما حدث بعد وقت قصير.
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022