الاستعمار الداخلي للشعوب العربية والثورات المضادة
الاستعمار الداخلي مصطلح استخدم لأول مرة في كتابات مفكري أميركا اللاتينية لوصف العلاقة بين النخب الحاكمة والشعوب التي تحكمها. ووصفت العلاقة الأساسية بأنها استعمارية نظراً إلى طبيعتها الاستغلالية التي لا تختلف عن العلاقة بين الدول الاستعمارية والشعوب المستعمَرة.
فالنخب الحاكمة تتحكم في مؤسسات الدولة وتسخّرها لتحقيق مصالحها الخاصة غير مكترثة بحال الشعوب الفقيرة المحرومة. النخب الحاكمة تتحكم بالاقتصاد والتجارة، وتستخدم الجيش والأمن لقمع الأصوات المعترضة ومنع قيام حركات سياسية منافسة، بعيداً عن كل الأطر القانونية. وبينما تعاني الشعوب تدهوراً أمنياً واقتصادياً، تعيش النخب في مجمعات سكنية محصنة، وترسل أولادها إلى مدارس خاصة، وتتمتع بالخدمات الرئيسية والكمالية، غير مكترثة لواقع الغالبية السكانية.
هذا النموذج الاستعماري برز في العالم العربي والإسلامي في صورة أكثر استغلالاً وقبحاً. بدأت معالمه تظهر في باكستان في السبعينيات، حيث يمتلك الجيش الحظ الأكبر من الميزانية الوطنية، وينافس القطاع الخاص في المشاريع التجارية والصناعية، وتعيش أسر ضباطه في تجمعات سكانية معزولة عن الشعب، ويتلقى أبناؤه التعليم الخاص والبعثات الدراسية، بينما تعاني غالبية السكان من الظروف المعيشية الصعبة، مع غياب الخدمات وضعف مستوى التدريس وغياب الخدمات الصحية.
تحول الجيش المصري إلى مؤسسة أمنية وتجارية
النموذج عينه أدخل إلى مصر في الثمانينيات، عندما تحول الجيش المصري بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل إلى مؤسسة أمنية وتجارية. وبدأت الطبقة الحاكمة في مصر تعزل نفسها عن الشعب ببناء التجمعات السكنية الخاصة، المزودة بجميع الخدمات من أسواق وأندية ومدارس خاصة وكهرباء وماء وحراسة أمنية متخصصة، ولتصبح معزولة عن الحياة القاسية الصعبة التي يعيشها معظم المصريين، في غياب الخدمات وفرص العمل، ومع ارتفاع مستمر في تكاليف الحياة وشحّ الموارد.
أحداث الربيع العربي أبرزت نموذج الاستعمار الداخلي وأظهرت أنه النموذج المعتمد في جميع الأنظمة العسكرية في المنطقة العربية. الاستعمار الداخلي يبرز بوضوح في أي دولة يعمل حكامها على تطوير مستعمرات محصنة خاصة بهم تعزلهم عن ضنك العيش الذي يعاني منه سواد الناس. وهو المشهد الذي تكرر في كل الدول التي نالت استقلالها وحريتها من الاستعمار الأوروبي لتجد نفسها تحت استعمار داخلي، يدفع بعض أبنائها للترحم على الاستعمار الخارجي مقارنة بالاستعمار الداخلي المقيت. القصة نفسها تكررت في سورية الأسد وتونس زين العابدين وليبيا القذافي ويمن الصالح. نخب حاكمة حريصة على إرضاء القوى الدولية وحماية مصالحها على حساب شعوبها التي تتعامل معها بمزاج متعال قميء.
نظام الأسد حول سوريا إلى مزرعة خاصة
لعل المشهد السوري يمثل أقبح أشكال الاستعمار الداخلي على الإطلاق. ليس فقط لأن نظام الأسد أثبت أنه من أكثر الأنظمة الاستعمارية دموية وشراسة، بل لاستعداده للتضحية بالسيادة والكرامة والوطن والشرف ورهن مستقبل البلاد والتحالف مع الطامعين وإرضاء الأعداء لتكريس حكم الفرد.
الربيع العربي جاء للتعاطي مع هذا الواقع وتجاوزه إلى واقع مغاير يمكّن أبناء البلاد من اختيار قادتهم ومحاسبتهم. تتالت الثورات مع إصرار الأنظمة العسكرية على قمع كل مطالب الإصلاح لتعلن بدء مرحلة جديدة تضع حداً لأنظمة الاستعمار الداخلي. وكما كان متوقعاً فإن الدولة العميقة المتجذرة منذ عقود طويلة قادت ثورات مضادة لمنع حركات الإصلاح من تحقيق أهدافها. الثورات المضادة ستنتهي إلى فشل لأنها تسعى إلى الحفاظ على أنظمة نخرها الفساد وتركها كأعجاز نخل خاوية.
كل الإرهاصات تشير إلى أن الشعوب ستتحرر من الاستعمار الداخلي، وأن الأنظمة العسكرية التي تستخدم كل أسلحتها وأدوات القمع التي تملكها لقهر شعوبها بدأت تختنق بمكائدها وجرائمها وفسادها ومكرها، مما يزيد حظوظ الشعوب العربية في تنفس الصعداء وزوال كابوس الاستبداد والفساد.
الشعوب ستتحرر رغم القمع والتنكيل، أو ربما بسببهما!
لؤي صافي
حقوق النشر: الحياة 2015