أرفع وسام شرف تقدمه ألمانيا لـ "بيكاسو العرب"
من المستحيل تقريبًا أن نصف ونقدِّر أعمال الفنَّان محمد عبلة الواسعة في كلمات قليلة. وُلِدَ هذا الفنَّان عام 1953 في المنصورة بدلتا النيل ودرس الفنّ في الإسكندرية في بداية السبعينيات، وهو يعمل كفنَّان تشكيلي منذ نحو خمسين عامًا - ليس في مصر وحدها، ولكن في أوروبا أيضًا، التي زارها أوَّل مرة في عام 1978 وقضى فيها فترة طويلة.
وفي أوروبا أيضًا تتم رعايته حتى يومنا هذا من قِبَل معرض هوهمان في مدينة فالسروده الألمانية، والذي اكتشفه في تلك الفترة وقد نشر كتالوجًا تمثيليًا يضم أعماله أيضًا وهو متوفِّر الآن على الإنترنت.
رسوم من وحي الفن تروي القصص
لا شكّ في أنَّ شرح أعمال محمد عبلة الثرية في كلمات قليلة للجمهور الأوروبي عمل يشبه تقديم أعمال بابلو بيكاسو إلى جمهور جاهل في عام 1960. وفي الحقيقة على الأرجح أنَّ بيكاسو وحده لديه عمل واسع مشابه ومتعدِّد الأشكال وملتزم مثل عمل محمد عبلة. ولكن مع ذلك إذا قارناه ببابلو بيكاسو وقلنا مثلًا إنَّ محمد عبلة هو "بيكاسو العرب" فسيكون هذا أمرًا غير معقول.
أمَّا المقارنة الوحيدة، التي قد تكون من هذه الناحية مناسبة، فتكمن في قلبنا هذا الوضع وإطلاقنا على بيكاسو اسم "محمد عبلة الأوروبيين". وربَّما سيلجأ المرء حقًا إلى هذه المقارنة عندما يريد في وقت ما في المستقبل توضيح تاريخ الفنّ الأوروبي لطلَّاب الفنون في العالم العربي.
وحينئذٍ عندما يسأل أحدهم مَنْ هو بيكاسو ويتلقَّى جوابًا بأنَّه "محمد عبلة الأوروبيين" فسيفهم الجميع ما المقصود بذلك: أي أنَّه في الحقيقة فنَّان منقطع النظير.
في حوار مع الزمن
إنَّ المصطلح الشائع لوصف التطوُّر الفنِّي والمعروف باسم "المسيرة الفنية" لا يساعدنا على تقدير عمل محمد عبلة الممتد لخمسين عامًا، وذلك لأنَّه يتضمَّن أنَّ بإمكاننا هنا التمييز بين المكتمل وغير المكتمل وبين الناضج وغير الناضج، لأنَّ هذا المصطلح يَفترض أنَّ مثل هذا العمل له جوهر ثابت ويتطوَّر منه: "هوية" مطلقة وأصيلة. ولكن عمل محمد عبلة حصين ومنيع ضدَّ مثل هذه المصطلحات الذاتية.
إنه عمل ينشأ في حوار دائم مع ظروف العصر ويبحث دائمًا عن إجابات جديدة ويُنتج باستمرار أصداءً مدهشةً. وهو خاصةً في تقلباته ومنعطفاته مرآة المجتمع المصري. ومع ذلك فهو لا يخدم هذا الفنَّان كمكبِّر صوت تصرخ فيه الأنا المُتكبِّرة، التي تريد أن تفرض على الجميع نظرتها إلى العالم. وعمله لا يظهر أيضًا - مثلما صارت الموضة حاليًا - بمظهر يثير الشفقة من أجل تحسين العالم، بصرف النظر أيضًا عن مدى التزام محمد عبلة اجتماعيًا وسياسيًا.
فنان يروي من خلال رسوماته القصص
تتميَّز الأعمال الفنِّية، التي رسمها ونحتها وشكَّلها محمد عبلة خلال العقود الخمسة الماضية بنوعيتها الملحمية. فهذا الفنَّان يروي قصصًا ويذكر دائمًا خلال الحديث معه أنَّ هذه القصص هي التي تُلهمه لرسم لوحاته. وكثيرًا ما نجد أيضًا في لوحاته كتابةً وملصقات مُجمَّعة من الصحف وقصاصات ورق واقتباسات وشعارات. ولكنها - على العكس مما تنتظره كليشيهاتنا من الفنّ العربي - ليست لوحات من فنِّ الخط ولا تدعم التوقعات الغربية.
بل يمكن قراءتها مثل أبجدية تتكَّون من اللوحات نفسها وتجتمع في مجمل عمله لتؤلف رواية زمنية كبيرة بانورامية الشكل. وفي هذه الرواية المكوَّنة من صور نتعلم الكثير عن مصر وجنوب البحر الأبيض المتوسِّط وأفريقيا والشرق الأوسط؛ ولكننا نسمع أيضًا أصداءً وأصواتًا من أوروبا. ونقرأ منها حول المصريات والمصريين ووقتهم وسياستهم ومقاومتهم وقدرتهم على التحمُّل وأمزجتهم ومخاوفهم وآمالهم. غضبهم وحبّهم.
"حفريات المستقبل"
هناك مثل عربي قديم يقول إنَّ "الشعر ديوان العرب"، والمقصود به هو أنَّ الشعر يعمل كأرشيف العرب وكمصدر لتاريخهم ونظرتهم إلى العالم. والفنُّ أصبح الآن مع محمد عبلة هو أرشيف العرب. وكعالم آثار حداثتنا الملوَّثة سبق عصره كثيرًا فقد قام في التسعينيات بإخراج القمامة من النيل وحوَّلها في دائرة من الأعمال المشهورة اليوم إلى منحوتات وأعمال فنِّية. وقد حصل في عام 1997 عن هذه الأعمال في معرضه "حفريات المستقبل" على الجائزة الكبرى من بينالي الإسكندرية.
واستطاع بفضل شهرته كفنَّان أن ينقذ جزيرة على نهر النيل وسكَّانها التقليديين - الصيادين وعمَّال العبَّارات والعمَّال البسطاء - من مافيا العقارات، التي تريد تحويلها إلى مانهاتن. وأسَّس عام 2006 في واحة الفيوم جنوب غرب القاهرة مركز الفيوم للفنون، الذي يضم أيضًا متحفًا للكاريكاتير يوفِّر مجالًا آمنًا للمداخلات المرسومة والنقد والسخرية والفكاهة، وللموضوع الأبدي المكروه من قِبَل المتعصِّبين ومدَّعي حماية الأخلاق من جميع الأطياف، غير المختلفين في العالم العربي عن ما هم عليه في أوروبا.
الفنّ كأرشيف
وفي حين أنَّ جداريات الربيع العربي المشهورة في القاهرة قد تمت إزالتها الآن كلها تقريبًا (بالرغم من أنَّه كان من الممكن تحويلها على الأقل إلى معلم جذب سياحي؟) فإنَّ رسومات محمد عبلة من الثورة تم حفظها وظلت موجودة لدى مَن يُحسَدون عليها من متاحف ومعارض وجامعي أعمال فنية.
وبهذا يمكننا أن نلاحظ في عمله تعريفًا جديدًا للفنِّ: الفن هو ما يمكن إنقاذه بطريقة ما من دمار تعدِّيات الواقع والمجتمع، وهو سفينة نجاة لكلِّ ما هو مختلف وغير مريح وغير قابل للتفسير ومتنوِّع ومكروه ومنبوذ ومقاوم.
وفي شكل هذا البعد الأثري والأرشيفي، في عمل محمد عبلة ونشاطه، وفي تدخله ومشاركته، وفي تعاطفه وفرحه - نلاحظ وميضًا ونرى نورًا في العمل انطفأ منذ فترة طويلة في مكان آخر. ولا عجب من أن يكون هذا النور في مصر أقوى وأشدّ مما هو عليه هنا في ألمانيا. ولكن هذا النور في الواقع ليس نورًا ماديًا، بل إنه نور مجازي: نور الروح وهو - مثلما تلاحظون - نور الوحي الفنِّي.
Wir brauchen die Kraft zur Erneuerung in dieser Zeit. Das @goetheinstitut schafft diese Kraft zur Erneuerung.“ & „Die Auswärtige Kulturpolitik muss ein fester Bestandteil der dt. Außenpolitik sein“ @ABaerbock bei Verleihung der Goethe-Medaillen in Weimar https://t.co/GEwHLXz5bB pic.twitter.com/nHEWqvi5uR
— Johannes Ebert (@johannes_ebert_) August 28, 2022
نظرية الألوان والتصوف
ولكن الآن بعد أن حصل محمد عبلة على ميدالية غوته، فبإمكاننا التساؤل أين تكمن علاقته بغوته - بصرف النظر عن كونه يتحدَّث الألمانية جيدًا وقد قرأ لغوته ترجمات عربية في فترة مبكِّرة، مثلما يعترف. وبما أنَّنا نتعامل هنا مع رسَّام فمن المنطقي أن نبدأ البحث في "نظرية الألوان" الخاصة بغوته. يقتبس غوته في المقدمة المقطع الشعري التالي:
لو لم تكن العين كالشمس
فكيف يمكننا رؤية النور؟
ولو لم تكن في داخلنا قوة الله،
فكيف نبتهج بالعمل الصالح؟
وهذه الأبيات ليست من شعر غوته نفسه، بل لقد أعاد صياغتها في أبيات من الشعر، ومصدرها بحسب قوله من صوفي قديم. وعندما نبحث ونتحرّى عن شخصية هذا الصوفي فإنَّنا نتفاجأ عندما نعرف أنَّه مصري المولد!
فقد وُلِد في عام 205 بعد الميلاد في أسيوط الواقعة على نهر النيل وتلقَّى تعليمه في الإسكندرية، التي كانت في ذلك العصر ذات طابع إغريقي. وقد انتهى به المطاف خلال مرافقته القيصر الروماني في حملة عسكرية في بلاد فارس، وبعد ذلك استقر في روما وأصبح مؤسِّس الأفلاطونية الحديثة. واسمه هو: أفلوطين.
ومثلما يعرف القليلون من الناس اليوم فقد تمت قراءة أفلوطين وترجمته بشكل مكثَّف من قبل الفلاسفة والصوفيين المسلمين. وقد كان من أشهر هؤلاء الصوفيين أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 بحسب التقويم الهجري، أي في عام 1111 بحسب التقويم الميلادي. كتب الغزالي كتابًا صغيرًا شهيرًا بعنوان "مشكاة الأنوار" يُفَسِّر فيه بطريقة صوفية تصوُّفَ النور لدى أفلوطين وفي القرآن.
نور في نهاية نفق
وبالنسبة لأبي حامد الغزالي فإنَّ النور لا ينحصر في مظهره المادي المحسوس، بل إنَّ النور بحدّ ذاته في نظر الغزالي - تمامًا كما في المقطع الشعري المقتبس لدى غوته - هو مجرَّد استعارة لغوية للنور الفعلي الحقيقي، أي نور الروح، الذي يربطنا من ناحية أخرى بالله.
وبهذا المعنى الروحي، فأنا مقتنع بأنَّ محمد عبلة يرسم النور في نهاية النفق الطويل المظلم، الذي دخلنا إلى داخله قبل سنوات كثيرةٍ كثيرةْ ومن دون أن نلاحظ ذلك في الواقع. وبما أنَّ محمد عبلة قد حصل في هذه الأوقات الصعبة على ميدالية غوته فإنَّ هذا يمكن أن يكون فقط مؤشرا جيدا بالنسبة لنا جميعًا.
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
شتيفان فايدنَر كاتب وباحث ألماني مختص في العلوم الإسلامية. هذه المقالة هي نسخة مقتبسة من نص خطاب تكريم الفنَّان محمد عبله، والذي ألقاء المؤلف بمناسبة حفل توزيع ميداليات غوته في الثامن والعشرين من آب/أغسطس 2022 في مدينة فايمار الألمانية.