تنوع الطوائف الإسلامية بعيون ألمانية
يحتوي كتاب "سيلفي مع الشيخ" الصادر في نسخته العربية عن دار العربي للنشر بالقاهرة، بترجمة مجموعة من المترجمين الشباب، على أربعة عشر قصة، تدور أحداثها في أماكن جغرافية مختلفة بدءًا من مصر، مرورًا بالمملكة العربية السعودية، وباكستان، وصولًا إلى تركيا، وغيرها من الدول العربية والإسلامية.
تمزج قصص بيترز بين أدب الرحلات، والتقرير الصحفي، والخيال القصصي، عبر هذا الأسلوب الموضوعي إلى حد بعيد، لا يفرض الكاتب مشاعر محددة على القارىء، بقدر ما يقدم وصف دقيق للأحداث التي يعيشها أبطاله، ويترك مساحة واسعة للتأمل، والتفكير، والتساؤل تجعل من القارئ شريكًا في النص وليس مجرد متلقيًا سلبيًا.
كما تعكس كتاباته علاقة وطيدة بالثقافة العربية والإسلامية، من خلال روابط أسرية وتجارب حياتية عاشها على مدار سنوات، مما يمنح قصصه روحًا خاصة بما تتضمنه من خبرات شخصية، وأسئلة، وتأملات عديدة عن الأفكار والقيم التي نتبناها، وعن تصوراتنا المسبقة تجاه الآخر، وعن السفر، والهوية، والحب، والذاكرة، والأحلام.
قاهرة المُعِزّ - مدينة الألف مئذنة أصبحت الآن مدينة العشرين مليون نسمة
رغم أن أحداث القصص تدور في مدن عربية وإسلامية متنوعة، إلا أن الكاتب يختص العاصمة المصرية القاهرة، ليقدم بها مجموعته القصصية. يفتتح بيترز كتابه بمقدمة بعنوان "السكون في القاهرة" - وهو أمر نادر الحدوث- فالقاهرة طالما عرفت بكونها المدينة التي لا تنام، فأجواء منتصف ليلها تشبه أجواء الظهيرة في عواصم أخرى.
"القاهرة خاوية.. لا سيما في كل الأماكن التي يتزاحم فيها السياح في العادة" انطلاقًا من هذه اللحظة الفارقة في تاريخ المدينة وتاريخ المجتمع المصري ككل، بالتزامن مع نجاح ثورة 25 يناير 2011، ووصول رئيس جديد للحكم ينتمي للتيار الإسلامي، يتأمل بيترز علاقته بمدينة القاهرة الممتدة على مدار ربع قرن، كيف بدأت، وتطورت، وإلى أين وصلت؟
"عندما أتيتُ إلى هنا لأوَّل مرَّة؛ أي قبل خمسة وعشرين عامًا، كانت القاهرة خاويةً أيضًا. وقتها، كانت نشرات الأخبار تمتلئ بحوادث دامية؛ بسبب إرهاب "الجماعة الإسلامية"، وغيرها من الجماعات، ما تسبَّب في بثِّ الخوف في قلوب الجميع، خاصة الأمريكان والألمان؛ نظرًا لأن الخوف هو الإحساس المُفضَّل لديهم، الأمر الذي ترتَّب عليه أن أصدر مبارك الأمر بحبس بضعة آلاف أغلبهم من الشباب في المقام الأول، كثيرون منهم قُبض عليهم بناءً على اشتباه محض، حتى عاد الهدوء ليسود مرَّة أخرى، وبدأ السُّيَّاح يعودون تدريجيًّا. ثم جاءت الثورة. وبغضِّ النظر عن السؤال عن مدى صحة أو خطأ الثورة الشعبية، فقد كانت توابعها مفزعة ومرعبة للغاية على المسافرين ومنظمي الرحلات".
الحداثة والأصولية
يشير بيترز من خلال مقدمته إلى الكثير من التعقيدات والتشابكات، الاجتماعية، والسياسية، والدينية، والاقتصادية التي تحكم المجتمع المصري، ومعظم المجتمعات العربية والإسلامية، والتي غالبًا ما يغفلها، أو لا يفهمها المجتمع الغربي، فمعظم المجتمعات العربية، وخاصة المجتمع المصري تعيش منذ قرنين تناقضات، وتحديات عديدة مرتبطة بسياق الحداثة، وما يطرحه من أسئلة حول شكل الدولة، ونظام الحكم، والقوانين، والديمقراطية، ودور الدين في الدولة، ومساحة الحرية، والأدوار الاجتماعية للرجل والمرأة، وغيرها من الأسئلة التي لم يتم التوافق المجتمعي حولها، مما جعلها عرضة للانفجار في أي وقت.
"أنا شخصيًّا أُفضِّل منذ وقت طويل السير على الأقدام في القاهرة، لا سيما لساعات طويلة، ووحدي تمامًا دون هدف محدد، حيث أَدَعُ نفسي تسوقني، فأشاهد ما هو كائن على الطريق، وأرى الناس وهم يعيشون، كما أراقب نفسي أثناء المشاهدة. يتحدث إليَّ أحدهم أحيانًا – ربما لأنه يرغب في اصطحابي إلى محل أحد أعمامه، وربما أيضًا لأنه لديه الرغبة في تجاذب أطراف الحديث مع شخص أجنبي، فيعرف شيئًا عن نظرتي على بلاده، أو ليحكي لي أنا الشخص المُحايد عن الوضع الحالي في مصر فيما يخص السياسة والاقتصاد، بل وجميع الأمور. وهكذا، أسمع كثيرًا حكايات لا يمكن أن أجدها في أي صحيفة ألمانية، كما أواجه منظورات لم أكن لأتعرف عليها من تلقاء نفسي".
يكمل بيترز سرده وصفًا مشاهد الحياة في القاهرة بكل ما تحمله من تناقضات، وتداخلات، وزحام، وطبقات متراكمة من التاريخ، فمدينة الألف مئذنة كما كان يطلق عليها قديمًا، أصبحت الآن مدينة العشرين مليون نسمة، مدينة الصخب، والضباب، والأتربة، والسياحة، والفن، والتسوق، إلا أن كل تلك التناقضات يراها بيترز معبرة عن روح وخصوصية المدينة المُغرم بها "وفرة الفائض تلك، والإفراط التام في القاهرة هي – تحديدًا - التي تجعلني أشعر بالهدوء بطريقة غريبة".
"أصطحب أحيانًا مجرد صور.. سيدة شابة تجلس في مقهى للشيشة أمام جهاز اللابتوب الخاص بها ذي الملصقات الملونة، وهي تمتص من مبسم وردي اللون يبدو كما لو أنه جاء من محطة فضاء مستقبلية.. طالب إندونيسي بجامعة الأزهر ربما يكون مُستجدًّا هنا يبحث عن الزاوية المناسبة لالتقاط صورة سيلفي وهو في أول صلاة جمعة؛ ثلاث نساء خليجيات يرتدين النقاب الأسود ويتناقشن أمام نافذة عرض متجر "فيكتوريا سيكريت" بمركز تسوق فاخر عن إحدى قطع الملابس الداخلية.
أو ذلك الرجل المُسن ذو الوجه الذي لفحته الشمس والعمامة والجلابية، الذي يجلس على كرسي من البلاستيك في الشارع ليراقب مرور الوقت. ووسط كل هذا، تتحرك الكلاب الحاضرة في كل مكان باستقلالية وسط كل هذا – حيث تشكل مجتمعًا في حد ذاته موجودًا في قلب عالم البشر وإلى جواره وتخضع لقوانينها الخاصة، ولا يشكل لهم من لا يزال يحكم البلد أي فارق".
الخوف من الآخر
واحدة من أكثر المعاني المتكررة على مدار قصص المجموعة هو الخوف من الآخر، والمفارقة في قصص بيترز أن هذا الخوف ليس مقتصرًا على علاقة الأشخاص المنتمين لثقافات، أو ديانات، أو مجتمعات مختلفة، ولكنه ممتد للأشخاص من أبناء الديانات، والثقافات الواحدة، فبينما قد ينظر الآخر إلى أن الإسلام والمسلمين يعبروا عن ثقافة واحدة، إلا أن قصص بيترز تخبرنا عكس ذلك.
فبداخل الإسلام طوائف متعددة مثل: السنة، والشيعة، والصوفية، وغيرهم من الطوائف، لكل منهم نظرته الخاصة للدين وللحياة، وكذلك كل طائفة تختلف في طقوسها من بلد لآخر ومن مجتمع للآخر، وهو ما يجعل كل طائفة غريبة عن الأخرى.
"كانت جامعة المنيا قد دعت "يانسن" لإلقاء محاضرة عن الطرق الصوفية الحديثة في تركيا، تحدث فيها عن الطرق المختلفة لها؛ النقشبندية ذات التوجه القومي العثماني الجديد، والتي تشجِّع على إعادة بناء مجتمع تقي، ودراويش المولوية الذين يعلقون في تكيتهم صورة أتاتورك بجانب صورة جلال الدين الرومي ويمارسون فيها رجالًا ونساءً الرقصة الدائرية التقليدية للدراويش، والشيوخ أصحاب الفكر المتحرر الذين جمعوا بين علم النفس الغربي وطرق التأمل القديمة.
اعتقد "يانسن" أن الشباب هنا سيسعدون برؤيته المتفتحة نحو القضايا الدينية، إلا أنه عندما وصف - في جملة واحدة عابرة - كيف كان الصوفيون الأتراك يقبِّلون يد شيخهم، خرج النقاش فجأة عن السيطرة، وأخذ بعضهم يقول إن "هذا الفعل مُحرَّم بشدة في الإسلام، وليست له علاقة بالتعبير عن الاحترام، وإنما يندرج تحت الشرك الذي هو أسوأ أنواع الكفر".
يحاول بيترز من خلال قصصه وترحاله أن يكسر هذه الحالة من الخوف من الآخر، وأن يبني جسورًا للتواصل قائمة على احترام وتفهم اختلاف، وخصوصية، وفرادنية كل شخص، وكل طائفة، وكل ثقافة، بدون أن يتماهى معهم، أو يفرض ثقافته عليهم، ففي كل قصة نتعرف على تاريخ المجتمعات، وطقوسها، من خلال تجارب يعيشها أبطال القصص، معظمها تنطلق من أحداث حقيقية عاشها الكاتب، إلا أن بيترز لا يفرض أفكار أو تصورات محددة على القارىء، بقدر ما يترك مساحات مفتوحة داخل كل حكاية، مساحات من الأسئلة، والمشاعر، والأفكار، التي قد لا نستطيع الحكم عليها، إلا من خلال تجربتها ومعايشتها.
أجيال جديدة
ما عاشه بيترز في مصر، يتكرر معه في العديد من الدول والمجتمعات العربية والإسلامية التي تدور فيها أحداث باقي قصص المجموعة، مع التأكيد على أن هذه المشتركات لا تنفي، أو تلغي خصوصية وفرادنية كل مجتمع، وهو معنى طالما أكد عليه الكاتب في معظم قصصه من خلال التعرف عن قرب على واقع وتاريخ هذه المجتمعات.
"يُعدُ قبر "عبد الله شاه غازي" أهم مقام من مقامات الأولياء في "كراتشي". وقد زاره فيما مضى الهندوس والمسيحيون أيضًا. وربما ما زالوا يزورونه حتى يومنا هذا، لكنهم ما عادوا يكشفون عن أنفسهم. جاء "عبد الله شاه غازي" إلى "السِند" عام 760م تقريبًا كتاجر خيول مع أوائل الفاتحين المسلمين، ثم اعتزل التجارة والحرب تمامًا. كان ابن حفيد النبي "محمد". تربَّص له أعداؤه في منطقة غابات وقتلوه.
فأعاده أتباعه إلى حيث رست السفينة التي أتى بها، ودفنوه فوق قمة التل المُطلَّة على بحر العرب. حينها لم يكن هناك سوى الصخر والرمال، والماء غير صالح للشرب للبشر والحيوانات، لكن بعد دفنه، انفجر نبع مياه حلوة على بعد أمتار قليلة. تقول الأسطورة إن قوة الولي المباركَة لا تزال تحمي المدينة من الأعاصير والفيضانات، وإن الولي يقدم يد العون عند المرض والعُقْم، لكن هناك من يرفض هذه الأسطورة، إذ فجَّر اثنان من عناصر حركة "طالبان" نفسيهما عام 2010 بين الزائرين، فتسبَّبا في مقتل ثمانية مُصلِّين وإصابة ما يزيد على ستين شخصًا".
يركز بيترز في قصصه على الأجيال الجديدة سواء من أصحاب الأفكار الحداثية أو الأصولية، كما يسلط الضوء من خلال قصة "الشاطىء الباكستاني" على العديد من الاختلافات الثقافات بين الشرق والغرب من خلال نقاشات "مارتن" الشاب الألماني الزائر لباكستان، وصديقته الباكستانية "بانو" الفتاة المتمردة وفقًا للتصورات الاجتماعية المحافظة.
يستدعى كذلك اسم "بانو" صورة السيدة الباكستانية الشهيرة بنظير "بوتو" المولودة في مدينة كراتشي أيضًا، وهى أول سيدة تتولى منصب رئيسة وزراء في بلد مسلم في عام 1988، وقد عاشت "بوتو" حياة صاخبة وقاسية قدمت فيها أسرتها الكثير من التضحيات فقد تم اغتيال والدها في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وأخيها في بداية الثمانينات، واغتيالها كذلك في عام 2007 بتفجير موكبها.
"كانت "بانو" تبلغ من العمر واحدًا وثلاثين عامًا، ولم تتزوج بعد، وعلى مدار العقد الأخير من عمرها لم يشأ أحد من أبناء عمومتها البالغ عددهم دستتين، أو من أصهارها، أو والديها، أو خالاتها وعماتها، أو حتى أختها "زينب"، أن يسعى في زواجها، ولم يبدُ أن أمر الزواج من الأمور التي تثير لديها أدنى اهتمام. كان منزلها - كأي فتاة غير متزوجة - بمثابة الجحيم، حتى إن "مارتن" طالما قال لها:
- غادري المنزل، اسكني في شقة مستقلة خاصة بك، ليس من المهم أن تكون كبيرة، فأنت تكسبين ما يكفيك.
لطالما نظرت إليه في مزيج من السخرية، والغضب، والمرارة مُردِّدةً:
- أنت لا تعلم شيئًا على الإطلاق.
كانا كثيرًا ما يختلفان لهذا السبب، لأن عقله لم يكن يتصور أن سيدة بالغة، مستقلة الفكر، ومستقلة اقتصاديًّا، تعيش في مدينة يبلغ عدد سكانها ستة عشر، أو ثمانية عشر مليون نسمة، لا تستطيع أن توقع عقد إيجار منزل باسمها، بل وتضطر لأن تختلق الأكاذيب لكي تبرر عودتها إلى المنزل في منتصف الليل، ولا يسمح لها بأي حال من الأحوال أن تبيت في أي مكان غيره، ولكنه استسلم أخيرًا وهو يهزُّ كتفيه في حيرة بالغة، فكان هنالك مجموعة من القواعد والقوانين التي لا يمكن اختراقها، على الرغم من أنها غير مُدرجة في دساتير، وأن اختراقها لا يستوجب الملاحقة القانونية".
إسلام أنور
حقوق النشر: إسلام أنور / موقع قنطرة 2020
عن مؤلف الكتاب:
وُلِد كريستوف بيترز عام 1966 في مدينة كالكار في منطقة الراين السفلى الألمانية وهو كاتب حر مقيم في برلين. حصدت أولى رواياته "مدينة، بلد، نهر" الصادرة عام 1999 جائزة "أسبكته" الأدبية". كما حاز كريستوف بيترز في عام 2016 على جائزة فريدريش هولدرلين المقدّمة في مدينة باد هومبورغ.
[embed:render:embedded:node:35571]