حين يختفي العالم الإسلامي من الأجندة الأمريكية
عندما صعد جو بايدن يوم 7 فبراير / شباط 2023 في الساعة 21:00 بالتوقيت المحلي (لواشنطن) أمام نواب الكونغرس الأمريكي لإلقاء الخطاب الرئاسي السنوي -أو ما يُسمى خطاب حالة الاتحاد حول أحوال الأمة الأمريكية- كانت قد مرت أكثر من 24 ساعة على وقوع الزلزال الذي ضرب الحافة الشمالية للصفيحة التكتونية العربية. وكان من الواضح أن حجم وعواقب الزلزال على جانبي الحدود السورية التركية باتت جلية. وعُرِف أن عشرات الآلاف قد دُفنوا تحت الأنقاض، كثيرون منهم موتى وكثيرون منهم ما زالوا أحياء في ذلك الوقت.
تقليدياً، في ما يعرف بخطاب حالة الاتحاد، ذلك الطقس السياسي الفريد، لا يتحدث رؤساء الولايات المتحدة عن حالة أمتهم فحسب، بل ينتهزون أيضا الفرصة للإعلام بالخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأمريكية ورؤيتهم لدور أمريكا في العالم. وفي نهاية الأمر، نحن نتكلم هنا عن أقوى دولة على وجه الأرض منذ 80 عامًا وحتى الآن. وعشرات الملايين من الأمريكيين يشاهدون الشاشات، وهو عدد أكبر من عدد الألمان المتابعين لمباراة في كرة القدم.
في خطاب حالة الاتحاد عام 2002، أطلق جورج دبليو بوش على العراق وإيران وكوريا الشمالية اسم "محور الشر"، وفي عام 2015 أكد باراك أوباما عزمه على تدمير تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الإرهابي، من أجل صالح الناس في الشرق الأوسط أيضا.
وفي السابع من فبراير / شباط (2023)، لم تَصْدُرْ عن جو بايدن ولا كلمةٌ واحدةٌ عن الزلزال في سوريا وتركيا. وكان هذا الصمت غير متناسب بشكل صارخ مع حجم الكارثة وتختبئ داخله رسالة غير مطمئنة. فهذا الصمت يعبر عن انتهاء حقبة التعاطف. هنا يرغب المرء في تذكر عبارة "شئ ما مفقود" للأديب الألماني بيرتولت بريشت، ليس فقط لأن الأديب تعرض لتجربته الخاصة لمَّا أجبره الكنغرس على إجابة أسئلة النواب حول اتجاهاته السياسية اليسارية عام 1947.
التعاطف مع الأمريكيين فقط
ويبدو أن التعاطف مع ملايين الأقارب الحُزَنَاء بين حلب وغازي عنتاب لا مكان له في الخطاب السياسي للولايات المتحدة. هذا لا يعني أن بايدن لم يظهر بعض النغمات الإنسانية في خطابه، ولكنها كانت موجهة حصريًا إلى الداخل، حيث وعد بأنه سيخلق فرص عمل بأجر جيد للأسر الأمريكية التي تعمل بجد وسيضمن بقاء الأدوية في المتناول، حتى بالنسبة لعشرة في المائة من الأمريكيين الذين يعانون من مرض السكري.
ينظر اللاعبون السياسيون الرئيسيون في الولايات المتحدة، تلك القوة العظمي عالميا، ومن بينهم الرئيس الأمريكي، إلى جمهورهم على أنهم كتلة من ناخبي ترامب المحتملين. لذا فهم ليسوا مهتمين بما يحدث في الخارج، حتى لو كان زلزال القرن. والشرق الأوسط بالنسبة لهم مثير للإزعاج والغضب على أي حال. والذعر من ناخبي ترامب يوجه النقاش والصمت. وقد بات هذا الاتجاه ملحوظًا منذ سنوات، وظل مسيطرا في خطاب حالة الاتحاد لهذا العام 2023.
إنه انقطاع عن التقاليد. فسواء أثناء تفشي وباء الإيبولا في غرب إفريقيا أو عاصفة الفلبين المميتة، كان من المهم بالنسبة للولايات المتحدة أن تثبت في مثل هذه المواقف أنه لا يوجد أي شخص آخر لديه القدرة على القيام بمهام إغاثة كبيرة وسريعة الانتشار مثلها. لقد كان جزءًا من إثبات القدرة على التأثير كقوة عالمية ادعت لنفسها أيضًا السلطة الأخلاقية. وتَعيَّن على العالم أن يعرف أنه يتعامل مع مملكة الخير.
لقد كتب الفيلسوف فولتير عن مئات الآلاف سيئي الحظ من الأطفال الذين سُحقوا على صدور أمهاتهم ("ما الخطيئة التي ارتكبوها؟") وعن أولئك الذين قبعوا تحت الأنقاض بعد زلزال القرن في لشبونة عام 1755. وأظهرت قصيدته "Désastre de Lisbonne" (كارثة لشبونة)، التي تعد بمثابة وثيقة تأسيسية لعصر التنوير، الأفق الواسع الجديد للأفكار.
التعاطف هو شعور إنساني بالدرجة الأولى
إنها دعوة للمشاركة في معاناة الآخرين، حتى لو كان ذلك بعيد جدا منا. وكان الشاعر الفارسي سعدي (المتوفى حوالي عام 1292) قد عبر بكلمات مماثلة قبل 500 عام. وقد حذر فولتير من أنه عندما يتم تجاهل من يعانون، حتى لو كانوا غرباء بعيدين، من قبل إخوانهم من البشر، فإن الإنسان يصبح بذلك مغتربا عن ذاته.
الولايات المتحدة، أكثر من أي دولة أخرى في العالم، هي وليدة عصر التنوير. وقد وصف فولتير الأمر بأنه مشكلة عندما كانت لشبونة في حالة خراب بينما كانت باريس ترقص وقتها. وبهذا المعنى، فإن اللامبالاة التي أظهرها الرئيس بايدن تبدو تراجعاً كبيراً إلى الوراء.
وبالإضافة إلى الزلزال، أغفل بايدن في خطابه أيضا أشياء أخرى. فلم يذكر إيران، حيث يتظاهر الناس في الشوارع من أجل الحرية ويتوقون إلى إسقاط النظام المناهض لأمريكا. ولم يقل كلمة واحدة عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي ينذر بالتصعيد أكثرمن أي وقت مضى بعد تولي حكومة نتنياهو وبن غفير وسموتريتش السلطة.
ووفقًا للرأي السائد هنا، لا يستطيع أحد التأثير حقًا على الأطراف المتنازعة سوى الولايات المتحدة. وبإمكان أولئك الذين يسعون لتحقيق أهداف متطرفة في هذا الصراع، أن يشعروا بالتشجيع على ارتكاب جرائم جديدة إثر عدم ذكرهم في خطاب حالة الاتحاد.
بعد يومين من ظهور بايدن، أعلنت الحكومة الأمريكية عن تقديم 85 مليون دولار كمساعدات لضحايا الزلزال. ووصلت فرق البحث الأمريكية إلى منطقة الكارثة التركية. ولكن هذا حدث بدون ضجة إلى حد ما. غالبا لم يفهم ملايين الأمريكيين الذين استمعوا إلى خطاب حالة الاتحاد حقيقة الأمر. والمهم هو أنهم لم يعرفوا ذلك.
في خطاب بايدن، كان الشرق الأوسط غائبا تمامًا. والآن ربما يمكن القول: أمر جيد هكذا! فقد انتقدت أصوات ليست بالقليلة الولايات المتحدة الأمريكية لغزوها العراق وأفغانستان باسم الديمقراطية والحرية دون أن تتحقق هذه الأهداف النبيلة. وكان الاتهام الموجه لها هو أن: النداء إلى القيم المستنيرة لم يكن إلا مجرد غطاء. وفي هذا السياق، يمكن للنقاد الآن أن يكونوا سعداء باللامبالاة الجديدة.
لكن الأمر ليس بهذه السهولة. الابتعاد عن الادعاءات السياسية بالقدرة على التأثير لا يعني الانعزالية الكاملة. فعسكريا، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية حاضرة في جميع أنحاء العالم أكثر من أي وقت مضى. في النرويج، على سبيل المثال، وفي المحيط الهادئ، يتم تطوير قواعد تسليح جديدة. وكذلك يتم تزويد الجيش الأوكراني بأسلحة تمكنه من مقاومة الهجوم الروسي. وقد ذكر بايدن ذلك بإيجاز على هامش خطابه.
الصين هي الخصم الأكبر، هكذا أوضح الرئيس في خطابه، ولم يكن بحاجة إلى الكثير من الكلمات. وقبل توليه منصبه، كان هناك حديث عن توسيع الصين لقوتها في العالم على حساب الولايات المتحدة. "ليس بعد الآن!"، هكذا أعلنها بايدن وأكد أن أمريكا ستضرب بقوة إذا حدث اعتداء على "سيادتنا".
بدا ذلك وكأنه اختزال للسياسة الخارجية في صراع العمالقة. وإذا اقتصرت الإنسانية على شعب الدولة فقط، وصارت القوة الناعمة ممنوعة من أن تمتد للعالم الخارجي وبات الاعتماد فقط على استخدام القوة الغاشمة فإن الاستعداد للتطرف في الشؤون العسكرية لا محالة سيزداد إلى أبعد ما يمكن.
ترجمة: صلاح شرارة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
شتيفان بوخن كاتب هذا المقال يعمل صحفياً تلفزيونياً في مجلة بانوراما بالقناة الألمانية الأولى أيه آر دي.
المزيد من المقالات من موقع قنطرة حول زلزال تركيا وسوريا:
أهوال وتعاطف وتزييف: حديث الصور في زلزال تركيا وسوريا
"كأنه يوم القيامة".. هكذا وثق نشطاء دمار زلزال تركيا وسوريا!
ريبورتاج: متضررون من زلزال تركيا يتخذون من سياراتهم ملاجئ خشية انهيار منازلهم
أسوأ زلازل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: من تركيا وإيران شرقا إلى الجزائر والمغرب غربا