إضاءة المبهم...تجسيد حيوي للمواطَنة العالمية والتمازج الثقافي
يَخبَر قارئ هذا الكتاب الشخصي للغاية للمؤلفة والفنانة التشكيلية اللبنانية إيتل عدنان أنها كانت قد بدأت بالتفكير بالشمس وهي طفلة. وكانت إيتل عدنان قد شرعت بكتابة قصيدةٍ عن الشمس سنة 1975 عندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية وكانت آنذاك ترى القنابل وتسمعها من شرفة منزلها.
طالت القصيدة وطالت، واشتهرت بعنوانها "يوم القيامة العربي". وقد عالجت إيتل عدنان فيها ارتياعها مما يفعله الإنسان بالإنسان، واضعةً الشمس كقطبٍ نقيضٍ باعتبارها سيدة الحكمة والحياة، وشاهدةً ومدمِّرةً في آنٍ واحدٍ، لكن أيضًا بصفتها الثابت الوحيد في عالمٍ منفلتٍ من عقاله.
مواطنةٌ عالميةٌ ذاتُ وعيٍ سياسيٍ
أي أنَّ العناصر لعبت على الدوام دورًا في تفكير وكتابات هذه المؤلفة، التي يمكن وصفها بأنَّها التجسيد الحيوي للمواطنة العالمية وللتمازج الثقافي، إذ كانت والدتها يونانيةً مسيحيةً من مدينة إزمير، وكان والدها سوريًا مسلمًا وضابطًا في الجيش العثماني.
ترعرعت هي نفسها مع اللغة العربية واليونانية والفرنسية، وتلقت تعليمها في مدرسة فرنسية وسافرت لدراسة الفلسفة في باريس سنة 1949. لكنها عزفت عن اللغة الفرنسية منذ تصاعُد حرب الاستقلال الجزائرية. ثم عادت في سنة 1972 إلى بيروت، واضطرت بعد سنوات قليلة من اندلاع الحرب إلى مغادرة وطنها ثانية، وجعلتها روايتها "ست ماري روز" التي تناولت جرائم القتل باسم الدين من قبل جميع الأطراف المتحاربة شخصيةً غير مرغوبٍ فيها.
من الملموس إلى اللامرئي
يلمس القارئ في الكتاب الجديد أيضًا وعي المؤلفة السياسي. حيث تكتب في أحد المقاطع: " ثمة بلدان في أجزاءٍ معينةٍ من العالم موجودةٌ من أجل تفجيرها بجهاز التحكم عن بعد. ويسمى هذا عادةً "بالإرادة الإلهية". ومقاومة قرارات الله كانت أسهل من مقاومة القوى العظمى الحالية.
بيد أنَّ التركيز الآن ينصب بوضوحٍ على العناصر نفسها: الطقس، والغيوم، والبحر، والبحيرة، والضباب، والليل. وقد كرست إيتل عدنان لها في العقود الأخيرة أربع قصائد كبيرة – يتضمن الكتاب الراهن الثلاث الأجد بينها: "البحر" و "الضباب" و "الليل". وهي تحلِّق حول ظواهر ملموسةٍ يستطيع المرء إدراكها بالحواس: هدير الأمواج، التألُّق الكروي للمحيط، قوة الريح المعربدة، ورائحة اليود فوق البحر، والطيور في تحليقها الحر، والنباتات على وجه الأرض.
لكنَّها تنطلق من هناك نحو استكشاف عددٍ لا يحصى من الألغاز التي تحيط بحياتنا: أين مياه الأنهار التي اختفت؟ ماذا سيحدث لنهر النيجر عندما يتقدم العالم في السن؟ أين الوقت ومن أين يأتي؟
فلسفة التساؤل
يضع "محادثات مع روحي" من هذا الجانب فلسفة تساؤلٍ تمعن عن وعي بالتفكير في فضاء منفتح. لذلك نرى القصائد حوارية إلى حدٍّ بعيدٍ، ومتقلِّبة كالغيوم في السماء. ولا بدَّ لمن يقرأ هذه النصوص أنْ يأخذ ما يكفي من الوقت لنفسه ولها. فهي تتجلى كأقوال مأثورة أو أشعار هايكو يابانية، وكصور ألغاز، وألغاز في صور، لا يمكن فكَّها بالمنطق وحده، ففي نهاية المطاف تسعى إيتل عدنان إلى إدراك الوعي بالضبط في اللحظة التي تقوم الروح بعملها الفوضوي. عالم إيتل عدنان البصري إذن مركَّب، إلا أنَّ لغتها دقيقةٌ وواضحةٌ فهي تحاكي الأساطير اليونانية، لكنها تتحدث أيضًا عن الاحتباس الحراري والرياح الشمسية، وعن كوكبي الزُّهرة والمريخ وعن مسرِّع الجسيمات في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية "سيرن".
كما تواجه الإرادة الإنسانية في غزو السماء بسلطة الكون القديمة، ورغبتنا في المعرفة اللامتناهية بسلطة المبهم. فقط أولئك الذين يذعنون لها يستطيعون بحسب إيتل عدنان تحرير العقل: من خلال استيعاب أننا جزءٌ من الكون، ولسنا حاكميه.
حول الرغبة في السلام
يتمتع كتاب "محادثات مع روحي" برزانة كبيرة، حيث يشعر القارئ بأهمية كل ما رأته إيتل عدنان وما خبرته في حياتها. وهي تسمي "الموضوع المتكرَّر في التاريخ" بـ "أجساد تعرضت للتعذيب، رُميت كما ترمى القمامة" ويتطلب ذبحها "التكتُّم".
لكنها في الوقت ذاته لا تزال مسكونةً بالنظرة الطفولية. طفوليةٌ، لأنَّ المؤلفة حافظت على براءة القلب، في معمعان المذبحة. تعلن إيتل عدنان في هذا الكتاب كما في "يوم القيامة العربي" عن رغبتها الثابتة بالسلام وبعالم من شأنه أنْ يعود إلى الإنسانية الحقَّة.
كلاوديا كراماتشيك
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق النشر: قنطرة 2015 ar.qantara.de
كتاب إيتل عدنان: "محادثات مع روحي"، نقلته عن الإنجليزية إلى الألمانية كلاوديا روشكوفسكي، صدر عن دار نشر ناوتيلوس 2015، 123 صفحة. الرقم الدولي المعياري للكتاب ISBN 978-3-89401-815-3.