"نسوان من لبنان": دروب الشهوة في متاهات الهجرة
دفعت الظروف الاقتصادية والسياسية في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع آلاف العائلات اللبنانية للهجرة عبر الأطلسي إلى الأميركيتين، إذ بدا أن هذا العالم يحمل فرصا أخرى للهرب من الفقر والعوز، الذي كان يعيشه آنذاك الفلاحون بالأخص.
وسافر الكثير منهم حاملين الأمل بالعودة ما أن يوفروا مبالغ مالية تتيح لهم العودة وبدء حياة جديدة، لكن هذه الاستراتيجية العائلية سرعان ما اصطدمت بقضايا واشكالات لم تكن في البال ولا في الحسبان، فمع وصولهم إلى العالم الجديد وجدوا أن الهجرة ومتطلبات العمل قد فرضت عليهم القبول بفكرة عمل فتياتهم خارج المنزل، في المصانع والمحال التجارية وغيرها من الأماكن العامة، وهذا ما شكّل يومها حالة من الضغط على القيم التي جلبها معهم اللاجئون، وهي قيم ترفض فكرة عملهن في المجال العام، خاصة وأن وجود النساء في هذا الفضاء كان غالبا ما يرتبط بفكرة قلة الشرف.
لكن فكرة قلة الشرف ليست وليدة المشرقيين آنذاك أو مقتصرة عليهم، بل لاحظت اليزابيت ويلسون أنه خلال القرن التاسع عشر عادة ما ارتبط وجود النساء الأوروبيات في الفضاء العام بمهنة المومس، وهو ما شكل قناعة بأن المرأة العامة هي إمراة مومس، وإن لم تتمكن هذه القناعة من فرض رؤيتها مطلقا لكنها استطاعت مع ذلك من خلق ذهنية ملتبسة حيال هذا الوجود، فها هو حلاق دمشق البدير في القرن الثامن عشر يصف كل نساء دمشق اللواتي أخذن يتردّدن ويظهرن في الأسواق بتواتر أكثر من السابق ب"الشلكات" في إشارة إلى ربط وجودهن بقلة الشرف.
"فكرة قلة الشرف ليست وليدة المشرقيين فقط"
وهذا ما حدث مع المهاجرين اللبنانيين الذين وجدوا أنفسهم أمام مئات قصص الغمز واللمز حول سمعة بناتهن العاملات في مؤسسات الهجرة و يلاحظ أكرم خاطر في إحدى دراساته، أن فتاة المصنع اللبنانية في ذلك الزمن أصبحت رديفا لـ"المرأة الساقطة جنسيا"، وهي صورة ستبقى بعض آثارها إلى يومنا هذا.
وقد انعكس هذا الواقع على كتابات الصحفيين اللبنانيين آنذاك الذين أخذوا يعكسون من خلال كتاباتهم ومقالاتهم هاجس الأخلاق والشرف الذي افتقدته العائلة اللبنانية بسبب الهجرة، أو من خلال رسمهم صورة سلبية عن النساء اللبنانيات أو السوريات بالأصح في تلك الفترة، ففي مقالة ظهرت في عام 1903 كتب الصحفي اللبناني الياس ناصيف الياس مقالا يشير فيه إلى أن عمل النساء لطخ شرف السوريين وعن عثوره على عشرات النساء اللواتي بتنا يمارسن الجنس مقابل المال وذلك بسبب قبول الرجال تركهن يعملن في الخارج.
ورغم أنّ هذه المقالات لم تتمكن من منع الرجال المهاجرين لنسائهم من الخروج والعمل، لكنها فتحت الباب ليصبح موضوع شرف الفتيات السوريات وعلاقاتهن الجنسية أدبا وموضوعا يعاد فتحه باستمرار، اذ نرى صحفيين آخرين في فترة الثلاثينيات، إذ نرى صحفيين آخرين مثل يوسف الزعني ويوسف واكيم يناقشون موضوع فسق السوريات ومجونهن في الأميركيتين.
لكن في مقابل هذه الكتابات والتي غالبا ما تعاملت مع الموضوع من باب التحذير مما يتعرض له المجتمع اللبناني/السوري آنذاك من مخاطر، فإنّ هناك من وجد في ثيمة الجنس مشروعا كتابيا أو خطابيا آخر، فهو ليس مجرد مكان لدق ناقوس خطر تغيرات الواقع وتدني الأخلاق، بل أيضا أصبح ساحة لفهم تغيرات المجتمع اللبناني. ويمكن القول أننا كنا مع هذه الكتابات أمام تشكل رؤى جنسانية وفق تعبير عبد الصمد الديالمي، وهي رؤى ترى أن السلوكيات الجنسية ليست مجرد افرازات بيولوجية بل تتركب من قضايا وعلاقات ومؤسسات وانتاج قيم.
ولعل من بين الكتابات التي تعكس هذا المشروع الآخر في النظر لسلوكيات اللبنانيات الجنسي كتاب الصحفي اللبناني اسكندر رياشي "نسوان من لبنان" والذي صدر بنسخة جديدة عن دار الجديد/تقديم الأستاذ الراحل لقمان سليم وكانت قد صدرت الطبعة الثانية منه في عام 1966.
"نسوان من لبنان".. الرياشي مؤرِّخاً بالغرام
بشير البكر#لبنانhttps://t.co/tOBXwKimQH— Al Modon - المدن (@almodononline) January 23, 2023
"هناك مؤسسات وظروف دفعت بنساء لبنان إلى أخذ سلوكيات أخرى، فالشهوانية هنا ليست مجرد دليل على غياب أخلاقي، بل هي وليدة ظروف مؤقتة"
في مقدمته لكتاب الرياشي، حاول سليم وضع ترجمة لهذا الصحفي والذي غدا في الخمسينيات نقيبا للصحفيين اللبنانيين، ومما يذكره هنا أن صاحب الكتاب ولد في نهاية القرن التاسع عشر وعاش في أسرة لبنانية مسيحية متدينة قبل أن يعبر البحار نحو الأميركيتين ليعود مع الحرب العالمية الأولى ويعمل بعدها مع الفرنسيين ويؤسس صحيفة الصحافي التائه.
وفي هذا الكتاب يخوض بنا في حيوات اللبنانيات الجنسية ومجونهن، مع ذلك نرى أنّ الموقف الأخلاقي لم يحتل لديه المكانة الأولى، بل نراه يؤكد على أنّ كل قصة من قصصهن تعكس صورة عن مجتمع لبنان الأكبر وعن هوياته وفساده والنزاعات التي كان يعيشها آنذاك، ولذلك يمكن القول أنّ السلوكيات الجنسية للبنانيات لها معنى آخر غير المعنى الأخلاقي، ولعله كان يخطو من خلال هذا الأسلوب منهجا آخر، قد يكون أول من فضّ هذا الدرب أو هناك من سبقوه وزاد المؤلف من لذة الخوض في عوالمه.
كل النساء في هذا الكتاب لسن قليلات شرف أو عاهرات، بل هناك مؤسسات وظروف دفعت بنساء لبنان إلى أخذ سلوكيات أخرى، فالشهوانية هنا ليست مجرد دليل على غياب أخلاقي، بل هي وليدة ظروف مؤقتة، ولكل شهوة ظرف مرتبط بها، وربما ما يدعم هذا التوجه أنّ غالبية بطلاته الجنسيات سيتوقفن لاحقا عن الخوض في هذا الجانب، فظروف لبنان الصعبة هي التي دفعتهن إلى خوض عالم الجنس المؤقت.
تبدأ قصصه مع اللبنانيات الشهوانيات، أو العاهرات كما يحلو للبعض قوله، من خلال قصة صانعة المستشار؛ وهي فتاة لبنانية من إحدى القرى الفقيرة، تعمل في صحبة المستشار الفرنسي على لبنان. وهنا سيحاول رياشي وصف كيف أنّ هذه العشيقة سيطال نفوذها مجال غرفة عشيقها لتقرر التحالف معه (الرياشي) بعد أن تعلمه بقصتها وباضطرارها إلى مضاجعة الفرنسي الحاكم لفقر عائلتها، وفي التحالف (ولعله خيالي على الأرجح) سيقرران تسوية بعض الأمور من خلال حركات التشويق التي كانت تؤديها للحاكم بما يدعه يقر ويخضع لما تريد، وبالتالي نرى في هذه القصة أنّ الفساد الاداري والجنسي والذي عرفته لبنان والمشرقيون لم يكن الأوروبي التنويري بمعزل عنه، بل كان مشاركا وداعما له في مقابل الحصول على شهواته.
ومن الأمور الطريفة في قصة عشيقة الحاكم الفرنسي أنها كانت تصطحب معزتها أثناء مضاجعة الحاكم، وكان دور المعزاة دور المتفرج، وهذا شبيه كما يقول رياشي بدور الأميركيين في جمعية الأمم المتحدة في جنيف، ويشير بذلك إلى أنّ الأميركيين آنذاك (الحرب العالمية الأولى وبعدها) كانوا قد فضّلوا عدم عبور حدودهم، وقد حاول الأمير فيصل استقدامهم إلى سوريا، لكن الحلفاء لن يقبلوا ذلك في ظل سياسة التفرج الأميركية.
وفي قصة أخرى يروى لنا عن بيوت الماخور في بيروت، لكنه لن يتوقف كثيرا عند لحظات اللذة، بل نراه يسير متنقلا بين هذه البيوتات لسماع حكاية كل فتاة منها، فيمارس دور الإثنوغرافي الذي يسير في عالم الجنس ليستمع لأهله وناسه دون أن يبدي مواقف أخلاقية بل آثر الإنصات، لأنّ ما يود قوله هو أنّ هذا المكان هو عالم يخفي وراءه واقعا ثقافيا واقتصاديا وسياسيا وحتى دينيا مغايرا.
جنس فوق ظهر المركب
في قصص أخرى يروي لنا حكاية لقائه إحدى الفتيات الصغيرات على متن سفن كان تقل عائلات لبنانية مهاجرة، ففي إحدى رحلاته لأميركا، وكان يومها في الدرجة الثانية، قرر الرياشي البحث عن فريسة تشبع غليله الجنسي وشهوته الخيالية، ولذلك زار مهاجرين لبنانيين كانوا قد تركوا قراهم وهاجروا إلى اميركا، وكان هؤلاء بسبب فقرهم يركبون في الدرجة الثالثة على سطح السفينة مما يجعلهم عرضة للأمطار والشمس.
وهنا سيشوق قارئه في أثناء البحث عن طريدته والتي سيعثر عليها أخيرا: فتاة صغيرة تحلم بالهجرة إلى اميركا، لكن القارئ سرعات ما يكتشف أن الغاية الجنسية التي سار فيها لم يكن هدفها فقط العثور على ما يشبع رغبته بل ها هو يقرر الخوض في حيوات هؤلاء القابعين على السطح المعزول عن باقي الدرجات، وهنا تصبح دورب الشهوة مكانا لمعرفة لبنان وأهله؛ مهاجرون يتكدسون فوق بعضهم بعضا.
وستخبره إحدى الفتيات، أنّ السفر لذة وأنّ في سفرها مخرج للهروب من ملاحقة رجال الضيعة دوما و"لكسب الحرية التي للنساء في بلاد الناس"، ولعلها قررت تقبيله للانتقام من ذاك العالم الضيق، وبذلك يغدو السلوك الجنسي ناجما عن أسباب نفسية ويعود رياشي ليؤكد على ذلك بعد دخوله لمشفى المجانين في أحد الأيام واستجوابه لبعض الفتيات اللواتي أصبن بالجنون لأنه لم يتح لهن التعبير عن رغباتهن الجنسية.
خاطرة: “نسوان من لبنان” تاريخِ لبنان الحديث من خلال حكايات غرامية صاخبة https://t.co/TvehGg7vDN pic.twitter.com/UGUjx3hr0O
— منصة هواء للكتابة (@Hawa2Com) October 4, 2022
"عريس أوروبي مزيف: الفساد الاداري والجنسي والذي عرفته لبنان والمشرقيون لم يكن الأوروبي التنويري بمعزل عنه، بل كان مشاركا وداعما له في مقابل الحصول على شهواته"
ومن القصص ذات الدلالات السياسية؛ قصة غرامه ومصاحبته لفتاة اميركية على ظهر سفينة ألمانية عملاقة، وكان المسافرون قد تجمعوا في باريس يومها وهذا ما يرده رياشي إلى كون حكومة باريس كانت قد نظمت تجارة الحب والجنس تنظيما غريبا ولذلك كان ملوك وامراء العالم يتجهون نحوها بوصفها عالم المتع وليس فقط عالما للتنوير كما ساد في أدبيات أو تواريخ الأفكار، وهنا لا يتوقف دون إجراء مقارنة أو استغلال هذه الخلفية الجنسية في باريس لمقارنتها بتحول لبنان أو بيروت إلى باريس جديدة لملوك واسياد وشيوخ الخليج والفرس خلال الخمسينيات، وربما في إشارته هذه ما يكشف أنّ قصته لم تكتب مرة واحدة أو تعكس سيرة الشباب بل هي سيرة متراكمه، وهنا يبدو في كلامه غير راض عما آلت إليه المدينة في زمن جماعة البترول العربي.
وفي السفينة العملاقة سيلتقي بفتاة اميركية غنية شهوانية تبحث عن رجال لتضاجعهن وعن زوج من عرق نبيل، ولذلك قرر رياشي (التركي يومها/عثماني) أن يستغل فرصة وجود شبه في اللفظ بين "رياشي" و"ريشليه" ليدعي أنه من اصول فرنسية عريقة، حينها فتحت له أبواب فراشها "الذي يسوى وحده على الأقل نصف ثروة لبنان".
ويفسر ابن الدوق الفرنسي المزيف ذلك بأنّ الاميركيين آنذاك كانوا يبحثون عن ألقاب شرف أوروبية وكانت الألقاب الكبيرة رائجة رواجا غريبا، فالرجال الأوروبيين لم يعودوا مع صعود الثروة الاميركية رجالا تنويريين ولا صناعيين ، فهذه الفتاة الاميركية من عائلة صناعية لكنها لا تمتلك دماء عريقة ولذلك نراها تبحث عن رجل أوروبي يؤدي وظيفة واحدة فقط، وبالتالي يحاول رياشي من خلال قصصه الجنسية مع الاميركيات رصد الصعود الأميركي في العالم كفتى لقيط أو مولود في عائلة بلا تاريخ، لكنه سيكبر ويصبح ذا ثروة وقوة إلا أنه يحتاج للتحالف مع العالم الأوروبي القديم حبا بارثه وليس بقوته، وبالتالي فهو ربما ، وخلافا لمن اتهمه باعتماد قصص لا توافق الثقافة العامة، كان قد وجد في الجنس الأداة لفهم العالم أيضا.
هل كان الرياشي سيوطيا؟
يقول الرياشي "ولا شك أنني من بين الرجال القلائل الذين لا يشيخون بل أنا من الذين يشعرون أنّ الشيخوخة وحتى الكهولة لن تكون من نصيبهم"، وهنا قد يخيل للقارئ أنّ الرياشي ليس سوى مريد في مدرسة السيوطي وتعاليمه عن عودة الشيخ إلى صباه، وربما ما يدعم هذا التخيل أنّ الرياشي يشارك السيوطي أساليبه في الحفاظ على فحولة الشباب، فهو يرى أنّ دوام التعشق وكتابة القصص الجنسية أو تخيلها هي الكفيلة بالحفاظ على فحولته، وهذا ما كان السيوطي يحرص عليه في كتبه، إذ حاول الأخير (1455_1505) أن يخصّص أجزاء منها لذكر عشرات القصص التي سمعها عن النكاح والشهوات في سبيل إثارة مشاعر قرائه، انطلاقا من أنّ العطار قد لا يصلح ما أفسده الدهر، لكن في التذكر وسماع قصص العشق والأيك ما يعيد للخيال فحولته.
وعلى الجانب الآخر سنرى أنّ المؤلفين العثمانيين لن يأخذوا بهذا الأسلوب، وإنما سينحازون للجانب التقني/الطبي من خلال الحديث عن الأدوية التي تساعد على النكاح وأوقاتها، بينما سيأتي الرياشي ليعيد الاعتبار لزمن السيوطي مرة أخرى من خلال عبارته "فدوام التعشق عند الإنسان أفضل من جميع الفيتامينات وحشيشة الزلوع المعروفة".
ومع ذلك، لا يمكن القول أنّ الرياشي كان سيوطيا (نسبا)، ولعله لم يقرأه بالأساس، وربما يعود ذلك إلى أنّ السيوطي والذي تراجعت وصفاته في زمن العثمانيين حتى غدت شيئا منسيا، لم يعاد اكتشافه إلا لاحقا كما حدث مع ابن خلدون وغيره من أبطال التراث الإسلامي، كما أنّ أدبه يبدو أحيانا ليس شبيها بأدب السيوطي، فرغم حديثه عن المعارك الجنسية وفحولته لكنه لا ينقل مشاهد بورنوغرافية عرفت بها كتب السيوطي والليالي العربية. ولكن طالما أنه ليس سيوطيا، فبمن تأثر؟
ولعلنا نعثر على الاجابة في مقدمة سليم لقمان للكتاب والذي لاحظ في سيرة الرياشي تأثرا واعترافا بالدين تجاه الروائي الأميركي الأيرلندي فرانك هاريس (1955_1931) والذي اشتهر في مذكراته بقصصه الجنسية المزعومة، وهذا ما نراه في حالة الرياشي من خلال قصة نجاحه في شفاء إحدى الفتيات من حول العينين بعد معاشرته إياها!
لكن أيا كان مصدر هذا التأثر، فإن الكتاب هو وثيقة اجتماعية عن أحوال لبنان وأهله في النصف الأول من القرن العشرين.
حقوق النشر: محمد تركي الربيعو 2023
محمد تركي الربيعو كاتب وباحث سوري مختص باحث سوري متخصص بالدراسات الأنثربولوجية.