هل يصلح العرب للديمقراطية؟
كان السؤال مفاجئاً، إذ إن أحداً لم يطرحه على هذا النحو من قبل. كان الصحافيون والمتخصصون يتناقشون في برلين في ندوة عامة حول الوضع في مصر بعد سقوط حسني مبارك، ثم رفع أحد الحاضرين من الجمهور يده طالباً الكلام. إن الناس في بلاد النيل، قال الرجل، تعوزهم الخبرة فيما يتعلق بالديمقراطية – أليس من الأفضل إعادة نظام الملكية الذي أطاح به ضباط 1952؟
كان السؤال ينم عن قلق عميق حول مصير الانتفاضة الجماهيرية في العالم العربي، فالمخاوف هي السائدة، لا سيما تجاه الإسلاميين الذين يريدون أن يقيموا في بلاد مثل مصر أو تونس حكماً دينياً متشدداً وفق النظام الإيراني أو السعودي. ولذلك يتحدث البعض في العالم العربي في الوقت الحالي عن "الربيع الإسلامي". لقد أكدت نتيجة الانتخابات في مصر صحة الشكوك التي تخامر عديدين من أن الدين بدأ يعلن انتصاره هناك. لقد حقق الإخوان المسلمون في مصر نحو 50 في المئة من مقاعد البرلمان، في حين حصد السلفيون المتشددون ما يقارب 25 في المئة من أصوات الناخبين. وهكذا قد يرى المرء أن البلاد أصبحت في قبضة ذوي اللحى الأشرار.
الشك والتعالي
غير أن سؤال الرجل يشي أيضاً بقدر كبير من الريبة التي يقابل بها الغربيون أهل العالم العربي. فالسؤال يمكن صياغته بطريقة أخرى أكثر مباشرة قليلاً: هل يصلح أولئك الذين يعيشون هناك في الجنوب للديمقراطية أصلاً؟ إذا أمعنا النظر في السؤال، فسنجده سؤالاً وقحاً، بل متعالياً؛ فالسؤال ينفي إمكانية أن يكون أولئك الناس الذين يعيشون في الجنوب صالحين للديمقراطية، أي أن الناس في العالم العربي هم عاجزون عموماً عن الحكم الديمقراطي.
وهذا سيعني من ناحية أخرى أنهم لا يستطيعون التعلم من الخبرات ولا أن يتطوروا. مثل هذه الاتهامات وجهت لبلد آخر من قبل، وهو ألمانيا. فبعد الحكم النازي الديكتاتوري كان كثيرون مقتنعين بأن الألمان غير قادرين على التعايش السلمي مع جيرانهم ولهذا ينبغي تحويل بلادهم إلى دولة زراعية. ولحسن الحظ فإن أولئك الذين أعطوا ألمانيا قرضاً من الثقة هم الذين فرضوا رأيهم. ونحن ينبغي علينا أن نتعامل مع العالم العربي وفق المنوال نفسه. علينا أن ندعم كل الذين يسعون إلى إقامة نظام ديمقراطي في الشرق الأوسط. إننا لا نستطيع التكهن بالمدة التي ستسغرقها هذه العملية – ولكنها بالتأكيد ستسغرق عقوداً وليس سنوات.
عقبات كثيرة تقف في الطريق: الجيش على سبيل المثال، وكذلك هياكل الديكتاتورية القدمية، والمتطرفون الدينيون، كما يجب ألا ننسى الفقر المدقع الذي يعاني منه المصريون. ستكون هناك نكسات. ولكن لا يمكن التمرن على الديمقراطية قبل ممارستها بالفعل، ولا يمكن التدرب عليها في ظلال الملكية مثلاً. من يعتقد ذلك، فهو ساذج.
"التدريب على الوظيفة"
لا يستطيع الإنسان أن يكوّن خبرات متعلقة بالديمقراطية أو بالعمليات الديمقراطية إلا عبر الممارسة. يقول الإنكليز في هذا السياق: training on the job. قد يكون الفشل مصير التجارب الأولى، ولكن حتى إذا حدث ذلك فهو لا يعني أن العرب عاجزون عن الديمقراطية – فهم لن يكونوا أول من احتاج إلى أكثر من تجربة قبل أن يمضوا على طريق التحول الديمقراطي.
هل جاءت اللحظة المناسبة من أجل الديمقراطية؟ الإجابة على هذا السؤال لا تتوقف حول ما إذا كان الناس قد تعلموا الديمقراطية أم لا – إنها تتوقف على رغبتهم في الديمقراطية. حتى هذه اللحظة يمكن القول بأن الملايين من العرب الذين خرجوا، أو ما زالوا يخرجون، إلى الشوارع معلنين رفضهم للنظم الاستبدادية التي يعيشون فيها، هؤلاء يريدون الديمقراطية. إنهم يطالبون بالتعددية والفصل بين السلطات ودولة القانون. لقد سئم هؤلاء أن تحكمهم نخبة فاسدة.
غير أن هذا لا يعني أنهم انفصلوا جميعاً عن الدين – على العكس. للإسلام دور مهم في حياة غالبية الناس في الشرق الأوسط. البعض يتسم تدينه بالتشدد، والبعض الآخر لا يرى في الدين سوى قيم وتقاليد معينة، وهذا ما تعبر عنه نتيجة الانتخابات البرلمانية في مصر على نحو دقيق للغاية. المصريون لا يريدون سياسة تنفصل تماماً عن الدين، إنهم يريدون أن يكون الإسلام هو الإطار المرجعي للذين يمسكون بالسلطة في البلاد.
العلاقة بين الإسلام والديمقراطية
من ناحية أخرى فإن الإسلام ليس بالضرورة عائقاً في طريق الديمقراطية، حتى وإن كان البعض يحب أن يردد ذلك كثيراً. إن بلاداً مثل تونس ومصر قد بدأت تبحث عن صيغة تجمع بين الديمقراطية والإسلام. ولهذا تجري النقاشات بهذا الشأن بحماسة كبيرة. فبعد النجاح الكبير الذي حققته القوى الإسلامية في مصر فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أي حد يمكن اعتبار تلك القوى ديمقراطية؟ ويمكن القول بحذر إن شكوكاً هائلة تحيط بالسلفيين المتشددين، ولا نستطيع في الوقت الحالي معرفة كيف يمكن الجمع بين دعوتهم إلى تطبيق الشريعة تطبيقاً صارماً واعتبارها المصدر الرئيس للتشريع، وبين دولة القانون التعددية.
أما بالنسبة للإخوان المسلمين فإن الإجابة أوضح بكثير. إنهم يمثلون منظمة جماهيرية كانت تجمع حتى الآن أجنحة متباينة كل التباين تحت شعار عام هو "الإسلام هو الحل". ورغم أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تشهد منذ عقود نقاشات حول الإصلاح، فقد ظلت الجماعة محافظة في رؤاها. لقد كان الضغط الممارس عليها من قِبل الدولة التي لاحقتهم كبيراً إلى الدرجة التي منعتهم من إعطاء الفرصة الكافية للتجديد. وبدلاً من التجديد انغلق الإخوان وتقوقعوا – إذ كان الترابط والبحث عن الحماية من الأعداء الخارجيين أهم من الإصلاحات.
يصعب على النخبة القيادية والجيل القديم في الجماعة أن ينفصلوا عن هذا الموقف؛ فحتى بعد سقوط حسني مبارك، ما زالت روح الطاعة والتضامن قوية جداً داخل الجماعة، وهو ما يجعل الانتقاد العلني لأعضاء الجماعة أمراً غير مقبول. بالرغم من ذلك فإن الإخوان المسلمين ليسوا محصنين تجاه المناخ السياسي الجديد الأكثر انفتاحاً في مصر. إن عديدين، وبخاصة من الجيل الأصغر في الجماعة – الذين شاركوا في المظاهرات قبل عام مثلهم مثل غيرهم من الشبان – يطالبون بنقاش مفتوح حول المسار المستقبلي للجماعة.
تحول لا يعرف أحد عاقبته
بالنسبة إلى أولئك الشبان فإن الإسلام والديمقراطية ليسا متناقضان. السؤال بالنسبة لهم هو: ما هي الصيغة التي يمكن بها الجمع بين الاثنين؟ إنهم يرون بوضوح أن "النموذج التركي" أكثر نجاحاً بكثير من "النموذج الإيراني". وليس هناك سبب يدعونا إلى عدم تصديق رغبتهم في التحول الديمقراطي. إن التصريحات التي أطلقها الذراع السياسي للإخوان المسلمين، حزب "العدالة والتنمية"، تسمح بالاعتقاد بأنهم جادون في آرائهم حول النظام الديمقراطي. كما أنهم يعرفون تماماً أن أي شكل جديد من أشكال الديكتاتورية، سواء ارتدت ثياباً عسكرية أو دينية، سوف تثير المقاومة العنيفة من جانب المتظاهرين في الشوارع. إن أهم مزايا الانتفاضة في العالم العربي هو تحول الشباب على وجه الخصوص من مواطنين خانعين في دولة استبدادية إلى مواطنين فاعلين يتدخلون في مجرى الأمور.
ليس هناك ضمانة في أن تفرز عملية التحول التي تشهدها مصر ودول عربية أخرى في النهاية دولاً تلتزم بالديمقراطية في شتى مناحي الحياة. غير أن الفرص التي يتيحها هذا التغير الجذري في العالم العربي هي بلا شك أكبر من المخاطر.
يان كولمان
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012