الفكر السياسي للربيع العربي والروح السياسية للانتفاضات العربية
لقد بات أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله بأن العالم العربي كما كان معروفًا حتى عام 2010 لم يعد موجودًا. وقد أثبت الخبير والمتخصص بقضايا الشرق الأوسط فولكر بيرتيس هذه الفرضية بالفعل في كتابه "نهاية الشرق الأوسط كما كنا نعرفه " والصادر عام 2015.
ولكن مما لا شك فيه أن الكاتب بيرتيس يستند في طرح أفكاره على معطيات السياسة الإقليمية والدولية، إلا أن الفرضية تتضمن بعداً آخراً لم يتم مناقشته بالشكل الكافي والمعمق حتى هذا الوقت، والكلام هنا عن التحول في الفكر السياسي للإنسان العربي منذ ثورات الربيع العربي، حيث أنتجت الثورات السياسية، التي يراها البعض على أنها فاشلة، إنساناً عربياً سياسياً (Zoon politikon) لا يمكن للنُخَب العربية الحاكمة أن تتجاهله.
نظرة إلى الخلف: إبعاد الإنسان العربي عن السياسة
سادت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حالة من عدم الاستقرار السياسي في العالم العربي، وهو ما مهد الطريق لنجاح النخب العربية في توطيد حكمها الاستبدادي المطلق.
وكنتيجة لذلك تنامى انعدام ثقة الشعوب بالقادة السياسيين والعسكريين، الأمر الذي أوصل إلى شعور عام باليأس والنأي عن المشاركة السياسية – وهذ كله أدى إلى ابتعاد الإنسان العربي عن مجال السياسة بشكل متزايد.
تعود المسؤولية عن هذه النتيجة بالدرجة الأولى إلى التهميش المُمنهج للفرد، وهو ما أنتج ما يمكن تسميتها بعملية لاتسييس (Apolitisierung) الإنسان العربي، حيث كان الإنسان العربي ممنوعاً من التحدث في السياسة ومن المشاركة فيها وحتى من اتخاذ موقف من القضايا السياسية. وبهذه الطريقة أتمت الأنظمة السياسية العربية إزالة الإنسان العربي من المشهد السياسي واختزلت حق وجوده في الحياة الخاصة ورعاية الأسرة.
لكن إلغاء الحرية السياسية يعني إلغاء الجانب السياسي (das Politische) برمته والذي – على عكس مفهوم ممارسة السلطة العملية من قبل السلطة الحاكمة - يتعلق بالوعي الاجتماعي والسياسي المتكون (بشكل عفوي وغير إرادي) في الرأي العام والذي يمارس تأثيراً على العمل السياسي للحكومات وممارستها للسلطة.
وانطلاقاً من هذا المنظور يمكن القول إن إلغاء هذا الجانب السياسي الذي يتضمن المشاركة والتفاعل السياسي للأفراد بحرية واستقلالية يعني فعلياً فقدان السياسة لجوهرها. وتتماشى هذه المقولة مع ما أكدته عن حق المفكرة والفيلسوفة السياسية حنة أرندت بأن الحرية ليست هدف السياسة، إنما هي المضمون والمعنى الحقيقي للعمل السياسي.
صحيح أن الدول العربية الحالية تعتمد في سلطتها على إلغاء الإنسان العربي السياسي، إلا أن هذا هو بالضبط ما أدخلها في أزمة، حيث تفاقم التأثير المتواصل للقمع والتعسف أكثر وأكثر، وأثبتت تركيبات السلطة التي تقيّد فكر وعمل الإنسان العربي حتى يومنا هذا أنها ليست ملائمة للعصر الحالي.
المشاكل الاجتماعية كسبب للانتفاضات
أظهرت العلاقة بين الدولة والمواطن العربي تغيّراً ملحوظاً. فبينما كان بإمكان الانسان العربي في الماضي التحكم بظروف معيشته بشكل مستقل عن الدولة، فإن هذه الاستقلالية لم تعد ممكنة في الوقت الحاضر.
ومن العوامل الرئيسية التي أدت إلى هذا التغيير هي النمو السكاني الكبير والبطالة. إنها باختصار المشاكل الاجتماعية التي قادت إلى الربيع العربي ودفعت الشعوب العربية إلى الانخراط في معترك الحياة السياسية والاجتماعية.
تعاني المجتمعات العربية في كافة نواحي حياتها من المشاكل الجسيمة كالفساد والفقر والبطالة وإساءة استخدام السلطة والظلم الاجتماعي. ولم تتمكن الحكومات العربية بسبب طابعها الاستبدادي بالمقام الأول من التكيّف مع التغيّرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكان يجب عليها اتخاذ إجراءات لإيجاد طرق للخروج من الأزمة وتقديم خطط لاستيعاب هذه التغييرات، إلا أنها أهملت ذلك ولم تدرك بأن العالم أصبح - في عصر العولمة والتكنولوجيا الحديثة - أصغر مما كان عليه.
لقد أدرك العرب الفقراء واليائسون والعاطلون عن العمل الفجوة الهائلة بين دولهم والدول الأوروبية والغربية الأخرى، وشعروا بالمشاكل السياسية والاقتصادية وأوجه القصور بشكل أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.
التحول إلى عنف مفتوح
بلغ الشك في قدرة القيادات العربية على إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية ذروتها واضطرت المجتمعات العربية إلى اتخاذ خطوة ملموسة. وكانت الثورات بالتالي ضرورة ونتيجة منطقية للظروف الاجتماعية الإشكالية والتي بات الأمل بحلها معدوماً. لقد كانت الأزمة الاجتماعية إذاً التي أيقظت الوعي السياسي لدى الإنسان العربي.
أدت بعض الاضطرابات السياسية إلى حروب اهلية، كما هو الحال في ليبيا وسوريا واليمن. وعندما يقارن المرء الوضع الكارثي الحالي في هذه البلدان مع الوضع في السابق والذي كان مستقراً على الرغم من المشاكل السياسية، فإن ذلك قد يجعل المرء يذهب إلى استنتاج خادع يقول بفشل الثورات العربية.
غير أنه يمكن اعتبار هذه التأويلات ذات منظور قاصر وأحادي الجانب، لأن التحول إلى العنف كان نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لتطورات سياسية مختلفة كان من الصعب التنبؤ بها، حيث أدى الاستخدام المُمنهج للعنف من قبل الأنظمة الحاكمة إلى ظهور عنف مضاد. وبصرف النظر عن الأسباب والعوامل الكثيرة التي أدت إلى تصاعد العنف، يمكن التأكيد أن هذا التطور السلبي (العنف وعسكرة الانتفاضات) قد أثر سلباً وأضر كثيراً بالأفاق المستقبلية للثورات العربية وللإنسان العربي السياسي (Zoon politikon) الجديد.
ولادة جديدة للإنسان العربي السياسي (Zoon politikon)
لا يزال الإنسان العربي على الرغم من كل ذلك نشطًا سياسياً واجتماعياً حتى اليوم. يمكن رؤية هذا النشاط السياسي، على سبيل المثال، في الشبكات الاجتماعية والمدونات والمنتديات السياسية والاجتماعية، وكذلك في التعليقات على مواضيع معينة في وسائل الإعلام المختلفة على الإنترنت. لا تزال هناك مناقشات حية حول الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
كما لا يزال للإنسان العربي السياسي صوتٌ مُؤثرٌ في الرأي العام. فوجوده مهم للغاية لأنه أساسي لتشكيل نظام سياسي جديد مستعد وقادر على الإصلاح وعلى تلبية مصالح ومطالب المواطنين. هذه الآفاق الجديدة تمهد الطريق لقيام دولة القانون التي تحفظ وتحمي حقوق جميع المواطنين.
وعلى ضوء ذلك ينبغي أخذ جانبين مهمين بعين الاعتبار: يركز الجانب الأول على أن بناء دولة القانون يتم تدريجياً وتنفيذه يكون فقط على المدى المتوسط والطويل. ويُعَد بناء الإنسان السياسي الذي يتمتع بالوعي الاجتماعي والسياسي والقادر على إطلاق الأحكام النقدية العقلانية من أهم العوامل للوصول إلى هذه الصيغة من الدولة.
أما الجانب الثاني فيقول إن تحقيق هذه الأرضية السياسية الصحيحة يمهد لإيجاد صيغة ديمقراطية معينة، حتى وإن كانت بمرحلة انتقالية ما بمقدار صغير نوعاً ما، فوجود الإنسان السياسي هو ضمانة لتطوير هذه الصيغة الديمقراطية. فجوهر الديمقراطية يكمن في قيمها الأساسية كالحرية والعدالة الاجتماعية وحفظ وضمان حقوق الإنسان.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الديكتاتورية هي ظاهرة مرتبطة بحالة أو ظرف معين وليس لها مستقبل بأي حال من الأحوال، ببساطة لأنها ليست في الوضع الذي يجعلها قادرة على تلبية احتياجات الإنسان المعاصر.
مبدأ الإصلاحية مقابل الاستبداد
لو كان نشوء هذا الإنسان العربي السياسي هو النتيجة الوحيدة للثورات العربية فإنه يمكن اعتبار الربيع العربي ناجحاً تماماً. كان على الحكام العرب إدراك الإشارة التي بعثت بها الاضطرابات الأخيرة بأنه لا مفر من العمل السياسي المسؤول وبأن الأمر كذلك أنه لا مفر من الإصلاحات التي تراعي مصلحة المواطنين قبل أي شيء أخر.
سيكون من الأجدر التشكيك في مقولة إن القيادات العربية مهتمة بجدية بتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية. ينبع هذا التشكيك من حقيقة أن أي نهج إصلاحي يهدد بقاء وجود أية حكومة استبدادية. وكما هو معلوم، فإن الاستبداد والإصلاح نقيضان ولا يمكن لهما أن يلتقيا في آن ومكان معاً.
من ناحية أخرى، من المُتوقع أن تحاول الأنظمة العربية ترويض الإنسان العربي السياسي الجديد. ومع ذلك، فإن سخط هذا الإنسان لن يكون أقل، فالأنظمة العربية غير قادرة على القضاء على المشاكل والتناقضات المتنامية في بلدانها، لأنها المشاكل ذاتها التي تتحمل هذه الأنظمة نفسها مسؤولية وجودها.
عماد العلي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019