وجهات نظر فلسطينيين من جميع أنحاء العالم
اعتاد الفلسطينيون أن يجري الحديث عنهم بحكم أن النزاع بين فلسطين وإسرائيل يُعدُّ واحداً من أطول النزاعات في التاريخ الحديث ويشهد حالياً 2023 / 2024 أسوأ تصعيداته.
ويبدو أنّ لكل شخص رأيه الخاص حول ما يحقّ للفلسطينيين الحصول عليه وما يجب عليهم الابتعاد عنه وأين يُسمح لهم بالعيش وما يجب أن يموتوا من أجله وما إلى ذلك. ولكن كيف ينظر الفلسطينيون أنفسهم إلى العالم؟ ليس فقط نظرتهم إلى النزوح أو انعدام الجنسية أو حياة في ظل الاحتلال الإسرائيلي، ولكن إلى الحرب الأوكرانية أو الأزمة المناخية؟ أو على مستوى شخصي أكثر: إلى قضايا مثل العائلة والصحة العقلية والجنسانية؟
الفلسطينيون منتشرون في جميع أنحاء العالم، ويعيش نصفهم فقط في منطقة الانتداب البريطاني الفلسطينية السابقة. ولكن هل توجد قواسم مشتركة بين وجهات النظر الفلسطينية في غزة أو الضفة الغربية أو إسرائيل، أو في الشتات في الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا أو الدول العربية؟
مهمتهم أكثر أهمية من أي وقت مضى
بدأت مجلة فكرة باستكشاف وجهات النظر الفلسطينية هذه. وقد تأسّست في آب/أغسطس 2023 في وقت لم يكن بوسع أحد التنبؤ بالدمار الذي سيهزّ المنطقة بعد أشهر قليلة فحسب، فمنذ هجمات حماس على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 ينفّذ الجيش الإسرائيلي هجمات عقابية على قطاع غزة وبالتوازي مع ذلك قتل مستوطنون متطرِّفون عشرات الأشخاص في الضفة الغربية.
ولكن حتى الآن فإنَّ مهمة المجلة أكثر أهمية من أي وقت مضى، فمجلة فكرة تنشر المقالات والشعر والقصص القصيرة والمصوَّرة والنثر والفنون المرئية التي تعود لفلسطينيين من جميع أنحاء العالم.
وتهدف المجلة إلى تكون منصة يمكن أن يجتمع فيها المجتمع المشتَّت لـ "المناقشة والتأمل وطرح الأسئلة والحلم"، كما تقول رئيسة التحرير عائشة حامد. ففي نهاية المطاف من غير المرجح في المستقبل المنظور أن يتمكن أشخاص -من غزة وبرلين أو من لبنان والضفة الغربية- من الالتقاء شخصياً لإجراء مناقشات كهذه.
أسّست عائشة حامد -البالغة من العمر 31 عاماً- مجلة فكرة مع شريكها كيفن كرويتر -البالغ 30 عاماً من العمر- وقرر الاثنان الاستقالة من عملهما في وزارة الخارجية الهولندية والانتقال من أمستردام إلى رام الله من أجل تأسيس المجلة الثقافية خلال زيارة إلى وطنها الناصرة في آذار/مارس 2022.
تقلص المساحات المفتوحة بالنسبة للمجتمع المدني
وكانت عائشة حامد -ووالدها فلسطيني- قد فكرت منذ سنوات بالعودة إلى ديار والدها في رام الله وتقول إنها بصفتها دبلوماسية وجدت من الصعب التوفيق بين آرائها الشخصية والخط الدي
بلوماسي الرسمي للحكومة الهولندية.
التقى الثنائي بالكثير من الفاعلين الثقافيين خلال زيارتهما إلى الناصرة وتستذكر حامد خلال اتصال عبر تطبيق زوم في حزيران/يونيو 2023 "أخبرونا عن القيود المتزايدة المفروضة على حرية التعبير وتقلُّص المساحات المفتوحة للمجتمع المدني".
يوجد شعور بالخوف سواء من الإجراءات القمعية من السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أو من رقابة السلطات في الأراضي الإسرائيلية ولذلك قرَّر الاثنان إنشاء منصة مستقلَّة حيث يمكن للقضايا الاستفزازية والمثيرة للجدل أن تُطرَح كذلك، وتقول عائشة حامد عن ذلك: "إنه حقل ألغام نتحرك حوله بحذر. بيد أنه يتوجّب علينا أحياناً تجاوز الحدود من أجل تغييرها".
وقد اختار فريق التحرير في مجلة فكرة عدم قبول أي تمويل عام، "لكيلا نخضع للرقابة أو للرقابة الذاتية"، -كما يشرح كيفين كرويتر- ومُوِّلت السنة الأولى من خلال نداء تمويل جماعي ولا يحصل الثنائي على دخل من المشروع لكنهما يعتقدان أنّ المهم دفع المال مقابل جميع المساهمات الكتابية والفنية والمرئية وغيرها.
وغالباً لا يكون الأمر بهذه السهولة -كما قالت عائشة حامد- فحتى قبل الدمار الواسع النطاق في قطاع غزة بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 كان تحويل النقود إلى الفاعلين الثقافيين في غزة مستحيلاً من الناهي العملية، وفي السابق كان المساهمون يحصلون على أتعابهم نقداً عبر جهات اتصال مشتركة وبشكل عام توجد غالباً مشاكل في تحويل الأموال إلى الأراضي الفلسطينية "فسرعان ما تفترض البنوك أنك تموّل الإرهاب"، بحسب ما توضِّح عائشة حامد.
من الشعر إلى الروايات المصوَّرة
نُشِرت الطبعة الأولى من مجلة فكرة في أوائل آب/أغسطس 2023 كما طُبِعت بعض المقالات وبيعت هذه النسخ المطبوعة عند إطلاق المجلة في رام الله وليس من الواضح إنْ كانت ستصدر المزيد من النسخ المطبوعة أو إنْ كانت مجلة فكرة ستكون متاحة عبر الإنترنت فقط في المستقبل، غير أنّ الأكيد أنّ ثلاثة مقالات تُنشر أسبوعياً جميعها باللغتين العربية والإنكليزية.
وتهدف الخطة إلى نشر مقتطفات من روايات وقصص مصورة والكثير من الفنون المرئية، وذلك إضافة إلى النصوص الكلاسيكية مثل المقالات والشعر والنثر. تقول عائشة حامد: "بالنسبة لنا إنها طريقة لتحقيق العدالة لجيل شاب ومبدع دائماً ما يسعى وراء أشكال جديدة من التعبير".
على سبيل المثال يوجد في الطبعة الأولى من مجلة فكرة سلسلة صور حول تأثير العنف على الأفراد والمجتمعات وتتناول واحدة من القصائد مقتل شخص عزيز وفي مقال آخر تتحدّث المؤلفة حول الصدمة العابرة للأجيال: "يولد كل فلسطيني مؤرخاً"، كما تكتب.
"نأتي إلى العالم مشفَّرين مسبقاً بقصص أجدادنا وهي تكون جزءاً منّا حتى قبل أن نسمعها وبالتالي من خلال سردها نتعلَّم المفردات التي تضع وجودنا الفرديّ في سياق قصّة شعبنا ويساعدنا أجدادنا وآباؤنا في بناء موسوعة للذات نملؤها بذكرياتنا الخاصَّة بعضها مظلمة وبعضها مشرقة".
"حضور شبه دائم للاحتلال"
تنشر مجلة فكرة مساهمات حول مجموعة واسعة من المواضيع والقاعدة الوحيدة هي أن 90% من المساهمات ينبغي أن تكون من عمل أشخاص يُعرِّفون أنفسهم بأنهم فلسطينيون، ويعيش المؤلفون وجمهورهم في بلدان مختلفة مع مستويات مختلفة من الارتباط بالثقافة الفلسطينية وبعضهم لا يتحدث العربية على الإطلاق. لكن ما الذي يوحُّدهم؟ تقول عائشة حامد: "الحضور شبه الدائم للاحتلال" في أعمالهم.
وإضافة إلى ذلك توجد موضوعات مثل الصدمة -وكيفية التعامل معها وكيف يمكن للفن المساعدة- والوحدة لا سيما في الشتات وهذا يعني "الشعور بالاغتراب عن المجتمع الذي نعيش فيه والمجتمع الذي تنحدر منه" وفق ما تواصل عائشة حامد كلابها، ويضيف كيفين كرويتر أنَّ المقاومة هي موضوع مهم كذلك وهذا يعني "التمرد على وضع غير إنساني".
وبعد بضعة أشهر فقط من هذه المحادثة مع عائشة حامد وكيفين كرويتر أصبح الوضع غير إنساني بشكل أكبر، وحتى في وقت كتابة المقال هذا كان أكثر من 10 آلاف شخص في غزة قد قُتِلوا بغارات جوية إسرائيلية و40% منهم من الأطفال -ومع انتهاء عام 2023 تجاوز عدد قتلى غزة عشرين ألفاً- وتفتقر المستشفيات القليلة التي لا تزال قادرة على العمل إلى الأدوية والوقود ويتضوَّر السكان جوعاً لأنه بالكأد يُسمح بدخول أي مساعدات إنسانية إلى غزة فهل من الممكن إدارة مجلة ثقافية في وقت كهذا؟
نساء يبحثن عن وطن
كاتب فرنسي من أصل فلسطيني لبناني حاز على جوائز عن روايته الأولى التي تجسد المنفى عبر أربع نساء من أربعة أجيال مختلفة - حياتهن خالية من الهدوء بين وطنهن فلسطين والمنفى. فولكر كامينسكي قرأها لموقع قنطرة.
"قصصنا تمنح الراحة"
تكتب عائشة حامد في رسائل بريد إلكتروني متبادلة في تشرين الثاني/نوفمبر 2023: "لقد كنا في حالة صدمة في الأسابيع القليلة الأولى وبعد فترة تلقينا بشكل متزايد رسائل من فلسطينيين في جميع أنحاء العالم يقولون أنَّ قصصنا كانت تمنح الناس الراحة وأنهم يريدون دعم عمل المجلة".
ونظراً لأنّ العديد من المحررين المنتظمين لم يعد بإمكانهم العمل بسبب أحوال الحرب -لأسباب شخصية أو خوفاً من الرقابة والاضطهاد- جمّع فريق مجلة فكرة بشكل عفوي فريقاً من المتطوعين وقسّموا العمل فـ "يجتمعون في أوقات العزلة" وينشرون مقالات وقصائد جديدة تتناول التطورات السياسية الجارية.
تقول عائشة حامد: "لاحظنا أنَّ المساهمات في الأسابيع الأخيرة قاسية ومؤلمة للغاية فهي تعبّر عن اليأس والحزن والغضب" وفي الوقت ذاته تعكس كذلك قدراً من المرونة فـ "البعض يكرِّمون عائلاتهم في غزة من خلال الكتابة عن تصوراتهم وبالنسبة لآخرين فمن المهم ألا تتعرض أصواتنا للإسكات"، تواصل عائشة حامد حديثها.
لم يُستقبَل قَطُّ انتقادُ الأوضاع في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي بشكل جيد في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص وفي ألمانيا -وبسبب المسؤولية التاريخية للبلاد تجاه الشعب اليهودي- يُعامَل الحديث عن النزاع في الشرق الأوسط بحذر، غير أنه غالباً ما يُتَّهمُ الأشخاص الذين يناضلون من أجل حقوق الفلسطينيين بمعاداة السامية بشكل عام.
وفي مواجهة النزاع الحالي كانت هناك موجة من الرقابة والقيود على حرية التعبير في ألمانيا وفقد الناس وظائفهم بسبب تعبيرهم عن تضامنهم مع الفلسطينيين وسُحِب التمويل من مؤسسة ثقافية عملت مع مجموعة يهودية يسارية كما حُظِرت العديد من المظاهرات.
ولذلك ينبغي لمجلة مثل مجلة فكرة أن تكون مستعدّة للنقد لكن المحررين لا يبالون بذلك فكما تقول عائشة حامد: "نبذل نحن الفلسطينيين دائماً قصارى جهدنا للاندماج وحين نروي قصصنا علينا أن نؤكّد مسبقاً أننا لسنا إرهابيين وأننا لسنا معادين للسامية وتصبح مشاعرنا وصدماتنا هامشية وأقل أهمية، ومع مجلة فكرة نريد تغيير ذلك".
حنَّة الهيتامي
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024