عالمية محمود درويش تمُدّ جُسوراً إنسانية بين الشعر العربي والعالم
الفرار من الحرب والقمع والفقر له علاقة وثيقة بالإنسان مثل وجوده في حد ذاته، لا يمكن لأمة أو جماعة عرقية أو حضارة أن تتنصل منها، ومع ذلك تصدمنا في جوهرها عندما نواجهها مع كل ماتحمله من عناصر مأساوية.
كثير من البشر الذين يصلون إلى أوروبا هذه الأيام، يأتون من دول عربية، بالإضافة إلى الرعاية الأولى والدعم. يجب في المستقبل التفاهم بعضنا مع بعض على أساس المعرفة، لأن فهم الأجنبي هو قبل كل شيء الفضول تجاه الآخر.
جسر شاعري
كان محمود درويش (1942 – 2008) في السادسة من عمره عندما أيقظته أمه ليلا، حين اضطر مع الأسرة لمغادرة فلسطين إلى لبنان. ليس بعيدا من عكا يعود إلى فلسطين بعد حرب 1948 ليجد قريته الفلسطينية "البروة" قد تهدمت كليا، وحلت محلها مستوطنتان يهوديتان - يسكنهما مهاجرون من أوروبا.
يشعر محمود درويش من جديد في فلسطين بالغربة في بلده، ورغم فقدان القرية يقرر أن يفعل الأفضل من أجل تحسين وضعه. لم يرفض العبرية، وإنما استخدم لغة المحتل كمجاز في إطار ثابت، وحول وظيفتها كنافذة للنظر من خلالها إلى جيله من كلا الجانبين.
وتبرز التوراة كواحدة من هذه الجوانب، "كتاب مهم رغم كل ذلك"، حتى أنها "مادة لا يستطيع أي مثقف الاستغناء عنها"، يقول محمود درويش. ويضيف أيضا: "ربما ستستغرب إن عرفت أنني قرأت التراجيديا اليونانية لأول مرة باللغة العبرية. يمكنني إلا أن أقول أنني مدين للعبرية في التعرف على الأدب الأجنبي."
ثم يبدأ في الكتابة كصحفي، وينشط سياسياً. ويلي ذلك اعتقالات وإقامة جبرية ورقابة. يعود عام 1980 إلى لبنان للمرة الثانية، ويصدر هناك مجلة "الكرمل". وعايش هناك مُحتلِّي بلده في المنفى كأمراء حرب عنيفين. بالهجوم الإسرائيلي على لبنان في عام 1982 يتحول المكان الذي التجأ إليه سابقا إلى مكان يجبره إلى النزوح مرة أخرى. ومن بعدُ اضطر إلى التنقل لعدة سنوات بين تونس وباريس، ليعود عام 1996 إلى وطنه من جديد. فقد أمضى سنواته الأخيرة متنقلا بين رام الله وعمان.
ليست سيرة محمود درويش وحدها التي رفعته إلى جسر فريد من نوعه، وإنما موهبة الشاعر المتميز هي التي تجعل الرداء االشعري اللامعقول ملموساً.
مقعد في قطار
ففي مجموعته الشعرية الصادرة عام 2002 بالألمانية بعنوان "لنا بلد من الكلام"والتي تضم قصائد كتبها بين عام 1986 و2002 نجد في البداية العنوان التالي "مقعد في القطار". عند قراءة هذه السطور ينبغي الافتراض أن هذه القصيدة كُتبت قبل بضعة أيام أو حتى قبل ساعات.
بهذه الصورالماثلة أمام أعيننا لبشر يحاولون بكل مالديهم من قوى الصعود إلى قطارات مكتظة متجهة إلى ألمانيا يلتقي الشعر العربي والحاضر الأوروبي بشكل مرعب. الواقع أن النصوص الشعرية هذه كتبها رجل كانت حياته مصبوغة باللجوء والمنفى ويطغي عليها موضوع المأساة الفسلطنية حتى موته عام 2008 .
في قصيدته "مقعد في قطار" يصف محمود درويش بشكل لافت مشاعر الناس وهم في طريقهم إلى مستقبل مجهول، في كثير من الأحيان في قطارات غريبة. بوضوح ودون ريب يصف كل محطة قطار على أنها مكان آخر للجوء، وأن كل لوحة محطة تعطي شعورا آخر بالمجهول. " نسافر بحثًا عن الصِّفْر". هكذا أصاب محمود درويش بتحديده لطبيعة اللجوء. يحمل اللاجئ في جيوب سترته الحد الأدنى من الوطن، وغالبا ما يكون مفتاح البيت القديم وصورة الأسرة.
" كُلّ أهلِ القطارِ يعودون للأهلِ، لكننا لا نعودُ إلى أي بيتٍ." يشكو الشاعر مرارة فقدان الوطن. استطاع محمود درويش بطريقة فريدة من نوعها أن يربط قرائه بالقضية - بشكل مباشر أو غير مباشر- وإقناعهم بأن الإرادة هي دائما أعلى قيمة رغم كل شيء .
تحضر الكلمات المختصرة، وليس هذا بالنادر في النصوص ذات الشكل الوثائقي، وتعكس بالتالي الحياة اليومية لوضع ينبغي أن يكون استثناء. الشعر بالنسبة لمحمود درويش هو الوحيد القادر على تحمل الزهد عن الوطن.
محمود درويش، هو شاعر الوطن ورمز للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي و- كما كان يسميه شعبه- هو صوت مَن لا صوت لهم. وإذا لم يكن ذلك في الماضي، ففي هذه الأيام يجب أن تحتل كتبه الرفوف في كل المكتبات الألمانية، لأنه إذا بحثنا عن جسور للتفاهم فسوف نجدها عند محمود درويش.
تضِيقُ بِنَا الأرضُ أَو لا تضِيقُ
يُبين في قصيدته "سأقْطعُ هذا الطَّريق" بكل وضوح أن عليه أن يسير كل الخطوات اللازمة من أجل السيطرة على الحريه. محور شعره –الوطن (الأليف) - يظهر بشكل بارز في قصائد محمود درويش، ويتطور مع مرور الوقت من مساحة جغرافية إلى فضاء حر تتوحد فيه الأصوات الشعرية مع أسس الوطن.
يقول الشاعر بإصرار واضح: "سأقْطعُ هذا الطَّريق الطويل، وهذا الطريقَ الطويلَ، إلى آخِرهْ. ... تضِيقُ بِنَا الأرضُ أَو لا تضِيقُ. سنقطعُ هذا الطَّريقَ الطَويلْ". عن طريق التحول من الأنا الفرد إلى نحن الجماعة يتحالف محمود درويش مع جمهوره، مع شعبه، مع اللاجئين في أي بقعة من الكرة الأرضية، ويخلق بالتالي هوية مشتركة تتصدى للمأساة.
النظر الى البعيد
كتب الناقد الأدبي شتيفان فايدنر عام 2002 بأن محمود درويش، هو واحد من أعظم الشعراء في العصر الحاضرالذي لم يُكتشف لحد الآن. بعد حوالي عقد من الزمن مازالت عدد ترجمات كتبه إلى اللغات الأخرى بما في ذلك الألمانية ضئيلة. كان محمود درويش في حياته يشعر بالإحباط بسبب محدودية الاهتمام بأعماله، وحاول في مسيرته الشعرية - وخاصة في السنوات الأخيرة من حياته - التخلص من التقييم من جانب واحد لأعماله.
يبدو أحيانا أن كل شيء له علاقة بالقضية الفلسطينية، بينما كان هناك تقريبا انعدام التحليل الشعري -أي المراجعة النقدية الحاسمة للأعمال الأدبية- التي تطورت ببطء إلى يومنا هذا.
إن الاستهلاك الأحادي الجانب لأعماله، دفع الشاعر يوما ما إلى رفض قراءة النصوص القديمة أمام الجمهور. يتحكم لديه الشعور بأن الورقة المطبوعة لم تعد تستطيع التعبير عن الواقع. "وأنا أحد الذين يعتقدون بأن الفنان الذي يتوصل إلى الرضا عن نفسه يفقد مبررات استمراره"، يقول محمود درويش بكل وضوح.
إن شعر ونثر محمود درويش السياسي لا يُقدَّر بثمن في الوقت الحاضر، حيث لشعره وظيفة نوعية مؤثرة في عملية التقارب، كما الحال في العديد من الأعمال الأدبية العربية أيضا. وعلى بلد الشعراء والمفكرين استخدام ما أنتجه من روائع الأدب!
ميلاني كرستينا مور
ترجمة: سليمان توفيق