من فلسطين إلى مسرح الموسيقى العالمي
نحن كصحفيين غربيين كثيرًا ما يكون ردِّ فعلنا الخاطئ عند الحديث إلى موسيقيين فلسطينيين هو مطالبتهم بإجابات على الصراع بين حماس وإسرائيل. ولكن ماذا إنْ كان الفنَّانون لا يريدون الانخراط في هذا النقاش؟
وهذا من حقِّهم - تمامًا مثل الموسيقيين الألمان الذين لا يمكن إجبارهم مثلًا على الحديث حول حزب "البديل من أجل ألمانيا" أو صادرات الأسلحة الألمانية إلى دول الخارج. ومن أجل تفادي ذلك فقد وصلتنا في المساء قبل حوار برنامج زووم مع فرج سليمان توجيهات من شركة التسجيلات الخاصة به، مفادها: الرجاء عدم طرح أسئلة حول صراع الشرق الأوسط. ومن الجدير بالملاحظة أنَّنا كنا ما نزال في الفترة قبل السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023.
وبعد وقت قصير من إصدار ألبوم فرج سليمان "As Much As It Takes" -بمعنى "بقدرما يتطلبه الأمر" أو "بقدرما تقتضيه الضرورة" - تغيَّر العالم في الشرق الأوسط. ومباشرةً بعد هجوم حماس الدمويّ وبداية حرب غزة أصبحت المحطات الإذاعية وهيئات التحرير الإعلامية في ألمانيا والغرب تتردَّد في نشر مقال أو موضوع حول هذا الهجوم لأنَّها كانت تجد ذلك أمرًا حساسًا للغاية.
يعتبر الفنَّان فرج سليمان الذي يعيش في مدينة حيفا مثالًا نموذجيًا على حتمية تحوُّل الموسيقى غير السياسية بطبيعتها إلى قضية سياسية نظرًا إلى هجوم حماس الفظيع وردّ الفعل الإسرائيلي المضاد المستمر حتى كتابة هذا المقال لأكثر من مائة يوم. ولكن يجب من أجل إنصاف موسيقي ما أن نحكم على عمله بشكل مستقل عن الأحداث السياسية غير المرتبطة ارتباطًا مباشرًا بإصداره.
رأس مليء بألحان شرقية
نشأ فرج سليمان في مدينة الرامة شمال فلسطين. وقد أُجبِر حتى عندما كان طفلًا صغيرًا على أخذ دروس عزف على البيانو، مع أنَّه كان يحتج على ذلك. وكان يتساءل لماذا يجب عليه أن يجلس في الداخل ويشقّ طريقه الوعرة بين موسيقى باخ وبيتهوفن بينما كان أصدقاؤه يلعبون كرة القدم في الخارج؟ ولذلك فقد أدار ظهره للموسيقى ولم يهتدِ إليها إلَّا بعد خمسة عشر عامًا.
وهكذا اختار فرج سليمان مع إدراكه أنَّ الكثير من الألحان موجودة في داخله أن يسلك مساره المهني كملحِّن وموسيقي مسرحي أصبح أسلوبه مميَّزًا. وحول ذلك يقول: "أعتقد أنَّ هذه الألحان الشرقية موجودة ببساطة في رأسي. ولا أستطيع الهروب منها. وموسيقاي تتوافق مع أسلوب حياتي وثقافتي وطعامي. وهذا هو الأهم بالنسبة لي: يجب أن يتوافق فنُّك مع محيطِك".
صحيح أنَّ فرج سليمان نشأ مع موسيقى وطنه التقليدية وأنَّ بعضًا من مقطوعاته الموسيقية تبدو وكأنَّه يتناول فيها أغنية شعبية، لكنه مع ذلك يتجنَّب إعادة المعالجات الملموسة للموسيقى الشعبية. كما أنَّه لم يجد قدوته في موسيقى الجاز الأمريكية أو الأوروبية بقدر ما وجدها في أسلوب عازف البيانو الأرمني تيغران هماسيان.
وحول ذلك يقول: "كل واحد منا كِلَيْنا لديه موسيقاه الخاصة به المتأثِّرة بالشرق ولديه معرفة كبيرة بالموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز. وعند الاستماع إلينا لا يبدو ذلك كأنَّه من نيويورك أو أوروبا على الإطلاق. فأنا أريد أن أحافظ على روحي الأصلية في التأليف".
ونلاحظ عند النظر إلى قائمة أعمال هذا الموسيقار الفلسطيني الكبيرة جدًا أنَّه أصدر -بالإضافة إلى ألبوماته الخاصة بموسيقى الجاز- بعض الأقراص القليلة التي تحتوي أيضًا على أغانٍ. وفي هذا الصدد يعترف هو نفسه بأنَّ هناك روحين تعيشان في صدره.
وقد كتب على قرصي ألبوميه "جبنا للولد بيانو" و"أحلى من برلين" مقطوعات تُذكِّر أحيانًا بالأغنية العربية الحديثة وأحيانًا بأجواء تشبه أوبرا الروك حسب أغنية "الملكة" la Queen. ويمكن أن تُقرأ أيضًا إشارات إلى السياسة من أبيات الشعر الغنية بالصور لشاعره الغنائي مجد كيال.
تأمُّلات حزينة
بيد أنَّ هذه الإشارات ليست انفعالية بل هي أقرب إلى التأمُّلات الحزينة وحتى اليائسة في وضع الفلسطينيين وتُعَبِّر عن الرغبة في السلام. فهو يقول في "شارع بلا اسم" مثلًا: "ولا حدا بسوق الناصرة قابل يشتري وجعي أو يبادل قصة حياتي على خمسة متر قماش، ولا عطَّار بسوق القدس قابل يخلط دمعي". ثم يضيف: "وما بكسر سكوت الزعل إلَّا سؤال الخوف".
وفي أغنية "الملكة" يفضح الشاعر مجد كيال عبثية اللعنات على الإمبراطورية البريطانية ضمن أغنية موسيقى روك روائية مدَّتها ربع ساعة.
ويروي ألبومه الجديد "As Much As It Takes" بمعنى "بقدرما يتطلبه الأمر" أو "بقدرما تقتضيه الضرورة" -وحتى من دون كلمات- قصة طفل يسعى بعزم وإصرار إلى تحقيق هدف إيصال موسيقاه في يوم ما إلى المسرح العالمي. ويكمن هنا بطبيعة الحال أيضًا جزء من السيرة الذاتية وذلك لأنَّ فرج سليمان يقيم حفلات اليوم في كلّ مكان من تورونتو إلى مونترو وتوجد لديه فرق موسيقية في إسرائيل وباريس وسويسرا وبرلين.
وحول ذلك يقول إنَّ "هذا الألبوم يصف هذه الرحلة الممتدة منذ لحظة تأليفي الموسيقى وحتى وصولها إلى قاعات الحفلات الموسيقية في جميع أنحاء العالم".
يجتمع العود العربي والغيتار الكهربائي معًا ليخلقا في حوار مع البيانو أجواء مُكثَّفة وأحيانًا عدوانية تقريبًا. ولكن توجد أيضًا نغمات مكتومة تشبه الأغاني في ألبوم "As Much As It Takes" بمعنى "بقدرما يتطلبه الأمر" أو "بقدرما تقتضيه الضرورة"، مثلًا في الإهداء إلى مسقط رأسه مدينة الرامة أو كذلك في قطعة "لحن شرقي" مع العازف الضيف إريك تروفاز على آلة البوق.
السعي إلى خلق موسيقى فلسطينية جديدة
لم يعد فرج سليمان يعيش اليوم في فلسطين بل بمدينة حيفا في إسرائيل؛ وبصوت مفعم بالمحبة يصف هذه المدينة التي يعيش فيها منذ عشرين عامًا بـ"بيتي". وهو يُحبُّ ويُقَدِّر فيها الأجواء المريحة والشاطئ والناس اللطفاء. "غالبًا لطفاء"، كما يضيف.
وبعد سؤاله إن كان يرى نفسه مُمثِّلًا للموسيقى الفلسطينية الجديدة؟ قال: "لا يمكننا حتى يومنا هذا الحديث عن موسيقى فلسطينية. نحن مضطرون إلى العيش مع الاحتلال، وحتى الآن لم يكن لدينا أي وقت لخلق موسيقى أو فنّ مميَّزين. لقد بدأ منذ نحو عشرين عامًا على أبعد تقدير تطوير شيء يشبه الموسيقى الفلسطينية. ومع أنَّنا نستطيع العثور هنا على بعض الأعمال من موسيقى الجاز - ولكن الطابع السائد هو موسيقى الهيب هوب والراب والمشهد البديل".
وعلى الأرجح أنَّ الأمور لن تصبح أسهل في الأيَّام القادمة بالنسبة للموسيقيين الفلسطينيين المضطرين إلى البقاء على قيد الحياة في مناخ من الكراهية السافرة. وسيُوَاجَه دائمًا فنَّانٌ معروف عالميًا مثل فرج سليمان بأسئلة من الخطأ طرحها عليه.
شتيفان فرانتسن
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024