الاعلام الغربي والثورات العربية: في فخ ضجيج الاعلام وإغراءات الصور
دقيقة ونصف الدقيقة لا يتجاوزهما طول كل تقرير مُصوَّر في نشرات الأخبار الحديثة، كما في القناتين التلفزيونيتين الألمانيتين الأولى والثانية في برنامجيهما الإخباريين اليوميين: "تاغِس شاو" و "هُوِيتِه جورنال". خلال هاتين الدقيقة والنصف دقيقة يحاول التقرير عرض الأحداث العالمية للمشاهدين القاطنين وسط أوروبا. "دقيقة ونصف" هو أيضاً عنوان عمل فنّي للفنانة مونيكا هوبَر، استند عليه محتوى الكتاب الذي يحمل عنوان: "الأخبار والثورة المتلفزة" (News. The televised revolution).
"دقيقة ونصف"، عنوانٌ يحمل في طياته شكاً وتساؤلاً: فهل يكفي هذا الوقت لتغطية أحد الأحداث العالمية بجدارة؟ لا، على الأرجح. وتماماً هذا الاقتضاب في الوقت هو المحور الذي يدور حوله الكتاب. مَن يرغب في قراءة هذا الكتاب الفني فعليه أن يمنحه من وقته الكثير. لكن في هذا الكتاب لا يلقى القارئ نقداً صريحاً ضد الإعلام، وبالأحرى توجد في الكتاب مجموعة فنية تضم 53 صورة منسجمة المحتوى، من إنتاج الفنانة مونيكا هوبر، إلى جانب مقتطفات من نصوص، كتبتها الصحافية المتخصصة بالشرق الأوسط سوزانه فيشَر، وفي الكتاب أيضاً مقالات إضافية، كتبها مدونون وناشطون من دول عربية مختلفة.
وبهذا الشكل، يتناول الكتاب التغطية الإعلامية للانتفاضات والحروب الأهلية التي اندلعت في العالم العربي منذ يناير عام
2011، المشمولة جميعاً تحت مصطلح الربيع العربي. الموضوع المركزي لهذا الكتاب هو التغطية الإعلامية المتشابهة لهذه الأحداث. وسواء في صنعاء أو درعا أو القاهرة أو طرابلس، تبدو الرموز والأشخاص والأحداث غامضةً أمام أعيُن المشاهدين الغربيين، لدرجةٍ يصعب عليهم فيها التمييز بشكل دقيق.
هذه العملية المفترضة تستنسِخها هوبَر في أعمالها الفنية. فقد قامت بالتقاط بعض الصور التي عُرِضَت في نشرات الأخبار التلفزيونية الأوروبية، ثم اختارَت بعض المقاطع منها، وطبَعَتْها على أوراق مخصصة للرسم، ومن ثمّ رسَمت عليها، وفَصَلَت بعض أجزاء الصورة، ومحَت أجزاءً أخرى، وبعد ذلك قامت بتصوير النتيجة النهائية ملتقطةً الصورة الختامية.
صورة مُبهمَة عن الثورات
وفي الصورة النهائية: تظهر ظلال لأشخاص؛ ورؤوس وأيْدٍ وقبضات، وسط محيط ضبابي غير واضح؛ مكان مجهول؛ وأفواه تصرخ، دون أية إشارة إلى ما تقوله هذه الأفواه؛ كما تظهر لافتات مكتوب عليها بخطّ عربي لا يمكن قراءته بوضوح؛ وعيون نساء تومِئ من وراء نقاب. وملامح مُبهمة لإحدى بُندقيات الكلاشنيكوف.
هذه الصور تكشِف النقيض التام لمفهوم: إيصال الحقائق إلى الناس بوضوح. كما تكشف عدم مراعاة أي نوع من حقوق المشاهد في طلب المعرفة أو الأخبار الموثَّقة أو الحقائق. فبدلاً من صور الكاميرات التلفزيونية الواضحة والبراقة والعالية الجودة، تبدو ملامح الصور في الكتاب متلاشية، ولا تقود المشاهد إلى الحقيقة، بل إلى مزيد من الغموض.
لكن كتاب "الأخبار والثورة المتلفزة" لا يتخلى عن القارئ ولا يتركه حده في هذا الغموض، بل يقرِن الصور بنصوص مجزأة ومبعثرة كصور مونيكا هوبر. لكن هذه النصوص تبدو أوضح بكثير.
هذه النصوص تقود قارءَها عبر مناطق الثورات. وبشكل مُسَلٍّ ومختصَر تأخذ بيده عبر تونس ومدينة درعا السورية ودمشق، ومن ثمَّ إلى لبنان، حيث يصف اللبناني رائد رافع، انطباعاته عن الثورة في مصر. ومن المثير للاهتمام أن يلتقي القارئ هنا بأشخاص عايشوا الثورة على شاشات التلفاز فقط، تماماً مثل مَن يعيشون في أوروبا. فالعالم العربي مثل الربيع العربي، ليس كُتلةً متجانسة.
في هذا الكتاب يتعرف القارئ عبر النصوص على شخصيات حقيقية من الثورة، مثل ليليا العبيدي، التي شغلت منصب وزيرة
شؤون المرأة في الحكومة الانتقالية التونسية، وحاولت الاستماع إلى الجميع وإتاحة الفرصة للجميع في التحدث إليها.
فقدان الثقة في الصُّور التلفزيونية
كما أن الكلمات الـ192 حول موت الناشط السلمي السوري غياث مطر تُحرِّك المشاعر أكثر من الصور الثلاث، التي تشغل كامل الصفحات الثلاث قبلها. هذا التأثير بالضبط هو ما يسعى إليه كتاب "الأخبار والثورة المتلفزة". فبينما تحوِّل الصور القارئ إلى مُشاهِد حائر ومتسائل، تتكفل النصوص بجعله يتعاطى مع هذه الأحداث، وبالتالي فإن الأحداث التي ترويها نصوص الكتاب تبدو أكثر مصداقية من الصور، وهذا قد يكون أحد التطورات الجديدة في التغطية الإعلامية للربيع العربي.
فالمشاهدون وصُناع الخبر بدؤوا يميلون بشكل أكثر إلى عدم تصديق الصور الآتية من مناطق الصراع، خاصة وأن المشاهدين الآن باتوا على علم بأن هذه الصور تُستَغل في صناعة القرار السياسي. ومن يعانون بشكل أكبر، بحسب ما ترى سوزانه فيشر، هم من يُعرَفون باسم "الصحافيين المواطنين" في سوريا، فهم يخاطرون بحياتهم لتقديم سيل من الصور ومقاطع الفيديو التي توثق المظاهرات للعالم بأسره على الإنترنت، إلا أنَّ معلوماتهم تُعتَبَر بأنه لا يمكن التحقُّق منها.
وبدلاً من ذلك، فإن الوكالات الإخبارية تبدو أكثر مصداقية بالنسبة للصحافيين الغربيين، رغم أن من يعملون في هذه الوكالات رافقوا المقاتلين والثوار، سواء في ليبيا أو سوريا، إلى جبهات القتال، وبالتالي فإنهم يتبنون وجهات نظرهم. هؤلاء "الصحافيون المرافقون" لجيوش الثوار يُشبهون إلى حد كبير المراسلين الذين دُمِجوا مع القوات الأمريكية أثناء حرب العراق، وواجهوا انتقادات كبيرة.
لكن فيشر تعتبر أنه "وخلافاً لما كان يحدث إبان حرب العراق، التي عَرَض أثناءها مؤيدو ومعارضو الغزو الأمريكي للعراق وجهات نظر متباينة للأحداث، يقف الصحافيون الغربيون بأكملهم تقريباً إلى جانب متظاهري الثورات العربية". ولهذا فإن الوقت قد حان منذ فترة طويلة لتوضيح "أسطورة الصحافي الموضوعي".
ولهذا، يُشَكِّل كتاب "الأخبار والثورة المتلفزة" دعوة إلى عدم الاعتماد على الصور المتلفزة بشكل كبير، بل الإصغاء أحياناً إلى ما يكتبه المدونون والمراسلون في المنطقة. والكِتاب يقدم في هذا الصدد مدخلاً جيداً لذلك.
بيورن تسيمبريش
ترجمة: ياسر أبو معيلق
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2012