حراك الريف في المغرب: لا بديل عن استمرار الإصلاحات
قد يعدو الأمر مجرد صدفة تاريخية لا غير، فيما يرى فيه البعض أكثر من دلالة ومؤشر على أن الأحداث لم تعد تسير وفق الخطة المرسومة لمحو بقايا الاستثناء المغربي. ألم ينسحب المتظاهرون تدريجيا من الشارع بين عامي 2011 و2012 بعد تشكيل عبد الإله بنكيران لحكومته، ما يعني اقتناع المواطنين؛ ولو نسبيا في البداية، بهوامش التغيير الممكنة داخل المؤسسات؛ خصوصا بعد إقرار دستور جديد، وتنظيم انتخابات مبكرة. في حين دشنت حكومة سعد الدين العثماني انطلاقتها بإخراج المتظاهرين إلى الشارع، ليس في منطقة الريف لوحدها التي امتد فيها الحراك لأزيد من نصف سنة؛ وإنما في العديد من المناطق المغربية حواضرا وبوادي، ناهيك عن المسيرة الوطنية لدعم الحراك يوم 11 يونيو الماضي.
إن كانت من دلالة لشرارة الحركات الاحتجاجية الاجتماعية التي يتمدد نطاقها هذه الأيام في المغرب، فهي أن النموذج المغربي في الإصلاحات، الذي انطلق مع حراك 20 فبراير عام 2011، لم يعد يمتلك القدرة على تعبئة كل شرائح المجتمع، بعد انتكاسة شهر أبريل المنصرم التي أتت على تلك البقية الباقية مما تركته متوالية من الأعطاب، أصابت مفاصله طيلة الولاية الحكومية السابقة. ما عجل بإحياء فتيل الاحتجاج بمواصفات أكثر حدة، مما كان عليه الحال زمن الربيع العربي.
متغيرات جديدة في المعادلة
أسقط حراك الريف؛ الذي تعود بداياته إلى أواخر السنة الماضية، عقب حادثة طحن بائع السمك في حاوية للأزبال، مجموعة من السرديات، التي ضبط بها العقل المخزني الحقل السياسي بالمغرب ردحا من الزمن.
أولاً: لم تعد أطروحة المجال الجغرافي المحفوظ للسلطة صالحة الآن، على الرغم من السعي الدؤوب لحماة السلطوية على بعث الروح فيها من حين لأخر؛ بالخصوص عند اقتراب الانتخابات. تتعدد المتغيرات الدالة على أن هذه القاعدة إلى زوال، لعل آخرها المناطق النائية التي اخترقتها الاحتجاجات في المغرب العميق (إمضير، تنغير، إيمنتانوت، سيدي عابد...) بالموازاة مع حراك الريف.
[embed:render:embedded:node:28461]
وبذلك يتأكد أن ما يعرف بالمجال المحفوظ لسلطة؛ أي البوادي والقرى، أخذ في التقلص تدريجيا مع استمرار "الانفلات الاجتماعي" من دائرة تحكم السلطة، لتتحول نظرية ريمي لوفو عن الفلاح المغربي المدافع عن العرش (1976) إلى جزء من التاريخ.ثانياً: أسقط هذا الحراك أطروحة حزب الدولة، فمركز الحراك هو مدينة الحسيمة التي ينحدر منها زعيم حزب الأصالة والمعاصرة؛ الذي يوصف في الحقل السياسي المغربي بحزب صديق الملك. ذات الحزب هو من يتولى تسيير رئاسة الجهة التي لا تريد الاحتجاجات أن تخمد فيها لما يزيد عن نصف سنة. ما يعيد إلى الواجهة سؤال مدى رجاحة سيناريو اللعب المباشر في صناديق الاقتراع في انتخابات 7 أكتوبر، إذ كيف يعقل لحزب عجز عن تدبير الجهة؛ رغم ما يحظى به من دعم، على تحقيق النجاح لو رجحت الكفة لصالحه، وأتيحت له فرصة رئاسة الحكومة. بهذا تنتهي فكرة حزب الدولة؛ أو ما يعرف بالحزب الإداري، الذي تعايش معه المغاربة في الحياة السياسية منذ الاستقلال.
ثالثاً: كشف الاضطراب في تحديد نوع الجواب عن هذا الحراك: الأمني أم السياسي، عن الارتباك الواضح في التعاطي مع واحد من أطول الاحتجاجات بالمغرب المعاصر، كما أظهر عجزا بيِّنا في تلك القدرات التنبئية النوعية التي تقدم عادة عن الأجهزة الاستخباراتية. حيث عمدت الحكومة فيما سميت ببيان أحزاب الأغلبية إلى الإدانة والتخوين والاتهام بالعمالة للخارج بداية الأمر، قبل الاستدراك والتصحيح والإقرار بمشروعية مطالب المحتجين لاحقا.
بيد أن هذا الإقرار لم يجنب أهل الريف المقاربة الأمنية، بما تضمنته من تدخلات عنيفة، ومسلسل من الاعتقالات المستمرة في صفوف رموز وقادة الحراك ممن تجاوز عددهم المئة معتقل حتى كتابة هذه الأسطر.
رسائل ما رواء الاحتجاج
يضمر زخم الاحتجاجات المتواصلة بالريف ومناطق أخرى في ثناياه العديد من الرسائل، التي تفترض إعمال شيء من العقل والحكمة والتروي، خاصة في زمن الأزمات الصعبة، حيث تصبح الأخطاء خطايا، ويتحول سوء التقدير إلى كوارث.
الرسالة الأولى: ديمقراطية الواجهة؛ صحيح أن مطالب المحتجين في ظاهرها اقتصادية واجتماعية، وبشكل عام ذات بعد تنموي. لكنها تبطن في العمق تزايد الطلب الشعبي على الديمقراطية، حتى ولو جرى تغليفه بهذه المطالب.
فالشعارات في المسيرات والخطب في التجمعات والمظاهرات تُجمع على رسالة واحدة، مفادها الدعوة إلى إيقاف التراجع عن الانفتاح الديمقراطي الجاري تنفيذه، بالرغم مما حمله الدستور الجديد من مبادئ وقواعد ديمقراطية، تقطع مع سياسة التحكم في الأحزاب السياسية، وإفراغ آليات الوساطة من مشروعيتها الشعبية ومصداقيتها السياسية. وتساهم في المقابل، بوجود إرادة حقيقة طبعا، في تحقيق التنمية وضمان الكرامة وسبل العيش الكريم للمواطنين.
الرسالة الثانية: المعارضة الصامتة؛ يؤكد نشطاء الحراك للدولة بأن المعارضة الحقيقة في البلاد هي التي خارج المؤسسات، فالواضح من خلال مجريات الحراك أن المعارضة الصامتة؛ غير السياسية بالمفهوم التقليدي، من تشكل الأغلبية الساحقة في المغرب. وقد أظهرت مسيرات الريف ذلك، حيت أن أغلب الشباب الذين يقودونها لا يمثلون أحزابا بعينها. إلا أن هذا، لا يعني انتفاء أي صلة بين هؤلاء وبين الشأن السياسي، كما لا يمكن أن نفصل بين مطالبهم ومطلب الإصلاح والتغيير الذي اختاروا الشارع وسيلة لبلوغه بعدما فقدوا الأمل في المؤسسات.
الرسالة الثالثة: الوعي الشعبي؛ بيّن الشعب في حراك الريف ومختلف التظاهرات التضامنية معه طيلة أشهر، بما فيها مسيرة 11 يونيو بالرباط، للدولة عن عمق الوعي الشعبي الذي لم يدخله من يهمهم الأمر في حساباتهم عند وضع معادلة إغلاق قوس الربيع المغربي. فتراجع نبض الشعب لا يعني موت الشارع أبدا، إذ بمجرد ما جاءت الفرصة صدحت الحناجر عاليا بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية... أكثر من ذلك قدم المغاربة دليلا قاطعا على تهافت أسطورة "الشعب القاصر" (المحجور عليه) باحتجاجات سلمية حضارية، بلا شعارات مستفزة للنظام. إذ لم تشهد معظم التظاهرات على ضخامتها وعفويتها أي انزلاقات أو خصومات إيديولوجية.
يدخل الحراك بمنقطة الريف شهره الثامن، دون أن تلوح في الأفق أي ملامح على قرب انفراج لمشكل طال عليه الأمد، رغم إقرار الجميع من حكومة وأحزاب ومختلف الفاعلين الحقوقيين والمدنيين وحتى مؤسسات الحكامة المنصوص عليها في الدستور، بمشروعية ووجاهة المطالب التي تتظاهر هؤلاء من أجل تحقيقها.
فبدل أن تواجه المشكلة السياسية بأجوبة وحلول سياسية، اتجه السلطة إلى البحث عن حلول أمنية وأخرى قضائية، ظانة في قرارات نفسها أن العنف والاعتقال والمتبعات هي السبل الكفيلة لضمان هيبة الدولة. هيبة لم تكن بذات الأهمية طيلة ستة أشهر من البلوكاج الحكومي، ولا قبلها حين ضربت الدولة العميقة بقوتها لعرقلة جل مشاريع الإصلاح في الفترة الحكومية السابقة.
عرقلة تدفع الدولة ثمنها الأن، حيث ساهمت في التعجيل بانتقال المساءلة في ظرف قياسي إلى الحقل الاجتماعي، وهو حقل حساس لا تملك فيه السلطة هامشا كبيرا للمناورة، إذ يتعلق بمطالب حياتية ملموسة ومشروعة، ولا يمكن لأحد أن يشكك في دوافعها، خاصة عندما تتم هذه المساءلة بطرق سلمية وفي الفضاء العام.
تضع هذه الأزمة الدولة بمؤسساتها موضع المساءلة، إذا كانت ترغب في الحفاظ على الاستثناء المغربي في السياق العربي، ما يجعل الحاجة إلى خطاب سياسي نوعي على غرار خطاب 9 مارس، ضرورة ملحة لتؤكد من خلاله الملكية بأنها مواكبة للتحولات العميقة التي يعرفها المجتمع المغربي، وتقطع الطريق أمام الوسطاء بينها وبين الشعب ممن كانوا أصل المشكل، حتى وإن كانت تكرس الطابع التنفيذي للملكية عكس الاتجاه العام نحو تأويل نصوص دستور 2011 من أجل بلوغ أفق الملكية البرلمانية.
محمد طيفوري
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017
محمد طيفوري كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية.