''حتى حراس غوانتانامو كانوا معتقلين''
في الثلاثين من أبريل/ نيسان 2008، وبعد ستة أعوام ونصف من الاعتقال، تم إطلاق سراحك من غوانتانامو. فكيف حالك اليوم؟
سامي الحاج: الحمد لله. بخير. ولكن سبع سنوات هي فترة ليست بالقليلة. لا زالنا نعاني جميعا. أحلام مزعجة في الليل. وصعوبات في التعامل مع الناس. أحيانا لا نرغب بالتحدث إطلاقا ونفضل الصمت.
بعد إطلاق سراحك، تحولت بين ليلة وضحاها، من معتقل إلى بطل يقف أمام الكاميرات ويُدعى إلى المؤتمرات. كيف عشت كل ذلك؟
سامي الحاج: كان يتملكني منذ البداية ذلك الشعور بأني أحمل مسؤولية أولئك الذين كنت معهم، والذين لازالوا معتقلين هناك. في كل لقاء يجري معي أستشعر تلك المسؤولية.
هل مازلت على تواصل مع معتقلين سابقين آخرين؟
سامي الحاج: أجل، طبعا. بالاشتراك مع معتقلين سابقين في غوانتانامو قمت بتأسيس منظمة تحمل اسم مركز غوانتانامو للعدالة. نحن نحاول أن نقاضي إدارة بوش، ولكننا لم نفلح حتى الآن.
لماذا؟
سامي الحاج: لأن الولايات المتحدة لم تقبل دعوانا
أنت تتكلم بصيغة الجمع "نحن". أي أنك تتكلم باسم مجموعة. كيف كانت العلاقة بين المعتقلين في غوانتانامو؟ هل كان بالإمكان إقامة صداقات بين المعتقلين؟
سامي الحاج: أجل، بالطبع. لقد كنا جميعا في نفس الوضع. وكصحافي أردت أن أطلع على قصص الآخرين. وتمكنت على مدار السنوات السبع من التعرف على معظم المعتقلين هناك. وقابلت تقريبا الجميع هناك. وبعد إطلاق سراحي حاولت الاتصال بالآخرين. أحيانا كان الأمر صعبا، ولكني حصلت على عنوان البريد الالكتروني من الكثيرين. واستطعت أن أزور بعضهم، مثلا في الجزائر و اليمن والسودان.
وكيف حالهم الآن؟
سامي الحاج: تشعبت بهم الطرق. بعضهم أمسوا مجانين. وهناك الكثيرون ممن لا نعرف كيف هي أحوالهم الآن. لو تنظرين إلى الوضع في العربية السعودية مثلا: 90 % من المعتقلين السعوديين الذين أفرج عنهم من غوانتانامو أعيد احتجازهم مباشرة (في السعودية).
هل تعني هنا أولئك المعتقلين الذين لم تقم عليهم أي دعوى قطّ؟
سامي الحاج: نعم. لا شيء البتة. بدون أدلة. يتم احتجزاهم والاحتفاظ بهم في السجن. مثلا رجل مغربي طار معي في نفس الطائرة القادمة من كوبا، كان يعتقد بأنه أصبح حرا طليقا. ولكن تقرر حبسه لمدة 12 سنة أخرى في المغرب.
إذن فالقصص لا تنتهي بالإفراج عن المعتقلين ....
سامي الحاج: أبدا. الكثيرون مايزالون يعيشون المعاناة. عندما يخرج المعتقل من غوانتانامو فإنه بحاجة إلى من يرعاه ويساعده. يجب أن يتعلم كيف يعود للعيش في المجتمع. ولكن ليس هناك أي مساعدة.
وما هو أصعب شيء بعد الإفراج عن المعتقل؟
سامي الحاج: الأصعب هو كيف يجد طريقه في الحياة مجددا. معظمنا بقي معتقلا لأكثر من خمسة أعوام، لذلك فحن نحتاج وقتا لنعود للحياة. نحتاج أناسا لا يعاملوننا كالمجرمين. نحن لم نرتكب أي جرم، ولكن الجميع خائف منا. لو وفق أحدنا في إيجاد عمل، وعلم المدير في العمل بأن هذا الشخص معتقل سابق في غوانتانامو، فإنه سيطرده من العمل فورا.
وما الذي ساعدك أنت شخصيا على تخطي عقبة سنوات الاعتقال في غوانتانامو؟
سامي الحاج: أمران اثنان: أولهما إيماني العميق. فقد علمت بأني لم أرتكب أي خطأ وبأن الله سيساعدني (لأني بريء). الأمر الثاني هو أني صحافي، وقد قلت لنفسي: نعم، ما أصعب أن أكون هنا، ولكن ربما كان ذلك ضروريا. لفترة طويلة كان محظورا على الصحافيين زيارة غوانتانامو. وبقي الحال هكذا لثلاث أو أربع سنوات حتى سمح للصحافيين أحيانا بالزيارة. ولكن كان محظورا عليهم الحديث مع المعتقلين. أما أنا فكنت واحدا من أولئك (الصحافيين) واستطعت مراقبة كل شيء من الداخل. كيف كانوا يتعاملون من المعتقلين، وكيف يعذبونهم. وطوال الوقت كنت أنتظر تلك اللحظة التي سأتمكن فيها من إخبار العالم خارج المعتقل بالحقيقة حول ما يجري في هذا المكان.
ذكرت بأنك استطعت أن تراقب كيف جرى تعذيب المعتقلين. فما الذي شاهدته تحديدا؟
سامي الحاج: أساليب مختلفة من العذاب. ضرب، أمور جنسية، إهانة ديننا، الحرمان من النوم. وقبل كل شيء كان ممنوعا علينا أن نرفض أي شيء. فعندما أضربت عن الطعام احتجاجا على اعتقالي، بدأوا، بعد 30 يوما من إضرابي عن الطعام، بتغذيتي اصطناعيا. وقد حاولت أن أدافع عن نفسي، ولكنهم وضعوا خراطيم في أنفي. وأعطونا بذلك غذاء كثيرا حتى أصبح مجبرين على التقيوء.
وهل تلقى جميع المعتقلين نفس المعاملة؟
سامي الحاج: كلا. كانت تلك المعاملة لمن يحتج ويعترض. من كان يرفض تناول الطعام أو كان يرفض الإجابة على سؤال ما أثناء الاستجواب. من كان يفعل مثل ذلك كان يعاقب. أحيانا يضعون المعتقلين في الماء، حتى يظنوا بأنهم سيموتون ... أحيانا مع كلاب ... أو مع مخدرات. بعض المعتلقين تم حقنهم بحقن تحرمهم من النوم وتجعلهم يهلوسون.
تشير دائما بالقول: "هم فعلوا". من تعني هنا بـ "هم"؟
سامي الحاج: أكثر من كالنا ضروب العذاب هم السجانون الصغار في السن. فقد افتقدوا للخبرة واعتقدوا بأننا إرهابيون. وقيل لهم: "يجب أن تعملوا على مدار الساعة في الحراسة. لأنه إذا أتيحت الفرصة لهؤلاء الناس، فسيقلونكم فورا!" لقد حاولوا أن يخوفوهم منا حتى يبقوا بعيدين عنا.
ولكن كانوا ينسون في أحيان كثيرة إغلاق زنزاناتنا. فلم يحاول أي معتقل أن يستغل ذلك ويقتل أحدا منهم. والذي حدث هو أن بعض السجانين أقدموا على الانتحار بأنفسهم.
هل تذكر حالة معينة؟
سامي الحاج: نعم. عيد الميلاد عام 2003. انتحر أحد الضباط وترك رسالة كتب فيها: "نحن نحتجز المعتقلين في زنزانات صغيرة – ونحجز أنفسنا في زنزانات أكبر". وكان محظورا على السجانين أن يسافروا أو أن يخبروا أحدا بما يحدث معهم. السجانون كانوا سجناء أيضا.
كيف كانت نظرتك للسجانين؟ هل كانوا بالنسبة لك بشرا تجردوا من كل إنسانيتهم؟
سامي الحاج: كلا، ليس كلهم. بعضهم أصغوا لنا. بعضهم فهموا بأننا بشر عاديون. ولكن إذا حدث وحصلت أي صلة بين أحد السجانين وأحد المعتقلين، كان يُقال: "لا تتكلموا مع المعتقلين!". لقد وضعوا كاميرات المراقبة في كل مكان. وإذا شاهدوا سجانا يقف أمام إحدى الزنزانات لأكثر من خمس دقائق ويتكلم مع معتقل منا، كان يتم استجوابه حول ذلك.
ومن هم أولئك الناس الذين يراقبون السجانين؟
سامي الحاج: إنهم عسكريون أيضا، ولكن من رتب أعلى. الأمر الذي أرهقنا فعلا كان الفريق النفساني، أي علماء النفس العاملون كمستشارين للجيش. درسوا كل واحد منا جيدا ثم أعطوا الضباط معلومات عن نقاط ضعفنا. "هذا هنا لديه خوف من الكلاب. والآخر متدين جدا، وسيكون تحت الضغط لو تعلق الأمر بقرآنه. والثالث لا يتحمل الجوع. لذلك أعطوه طعاما أقل."
وهل تعلم ماذا قالوا عنك شخصيا؟
سامي الحاج: لقد عرفوا مني بأني أحب عائلتي وابني كثيرا. فحاولوا أن يمنعوا عني رسائل وصورا. عندما وصلتني صورة لابني، من خلال الصليب الأحمر، أروني فقط نسخة عن الصورة، ثم سلبوا مني حتى تلك النسخة.
كان ابنك صغيرا جدا عندما وصلت إلى غوانتانامو ...
سامي الحاج: أجل، لقد كان عمره 14 شهرا فقط
.
وكيف عايش ابنك ذلك، كصبي ذي سبعة أعوام يتعرف فجأة على أبيه؟
سامي الحاج: تصارع لديه جانبان: فمن ناحية، أراد هو البقاء معي طوال الوقت، ولكن من ناحية أخرى لم يلتق بي قبل ذلك قطّ. كان يعرف فقط ما كانت ترويه عني أمه له. وعلاقته بها وثيقة جدا، وعندما رجعت صار لديه شعور بأني سآخذ أمه منه. في نفس الوقت مثلت عودتي الفرج بالنسبة له. فقبل ذلك كان يشعر بالخجل في المدرسة لأن أباه في السجن. بقية الأطفال شاهدوا صورته مع صورتي على شاشة الجزيرة، ولكنهم كانوا صغارا جدا لكي يدركوا الموضوع. فهموا فقط: السجن. والسجن للناس السيئين. إذن كانوا يظنون بأني شخص سيء. وعندما كان ابني يُسأل، لم يكن يعرف كيف سيجيب. ولكن الحمد لله، الآن عمره 12 عاما وكل شيء على ما يرام. ولديه أخوان اثنان، حمد وأحمد. ولقد ولد الصغير قبل أسابيع فقط. أتعلمون: عندما أروي قصتي أفكر في قرارة نفسي: لقد كنت محظوظا. لقد علمت بأن لدي عائلة.
كيف تنظر اليوم إلى أمريكا، الدولة ومواطنيها؟
سامي الحاج: قبل غوانتانامو لم يكن لدي أي تجربة مع الأمريكيين. فكان لدي احترام لهم جميعا. أما لاحقا فلم يعد لدي أي احترام لإدارة بوش. وأحيانا ألوم الناس لأنهم أعادوا انتخابه، بعد أن سبب كل تلك المشكلات وبعد أن تسبب بسقوط كل تلك الضحايا في العراق وأفغانستان. ولكنني أرى أمامي بنفس الوقت كلايف ستافورد سميث، وهو محاميي، الذي ساعدني كثيرا جدا، والذي يحمل الجنسية الأمريكية أيضا. الناس ليسوا جميعا متشابهين كما هو الحال مع أصابع اليد.
وإذا ما عدت بالذاكرة الآن إلى هناك. هل كل شيء هو ذكريات سوداء، أم أن هناك لحظات شهدت شيئا من الحياة الطبيعية أيضا؟
سامي الحاج: أجل. فلم تكن التعاسة دائمة. أحيانا كنا نضحك عندما يقوم أحد ما بترجمة خاطئة لكلمة من الانكليزية إلى العربية وعندما يحصل سوء فهم. لقد حاولنا أن نجعل الوقت يمضي بأفضل طريقة. كان محظورا علينا أن نتحدث مع بعضنا، ورغم ذلك كنا نتحدث مع بعضنا.
ولكن كيف حدث ذلك؟ وقد كنتم في زنزانات انفرادية، أليس كذلك؟
سامي الحاج: بلى، ولكن كان بالإمكان الحديث مع المجاورين. لقد كنا معتقلين من أكثر من 50 دولة. فكنا نسأل بعضنا: ماذا لديكم من تقاليد؟ كيف تحتفلون بالعيد؟ بعضنا كان يتكلم الفرنسية فيعلم جاره اللغة الفرنسية. لقد تعلمنا أشياء كثيرة. كان بيننا طبيب يمني وقد علمنا أمور طبية عديدة. الأمر الأكثر جذبا بالنسبة لي هو سماع قصص من حياة الآخرين. سألت جاري مثلا: ماهو الموقف الأكثر صعوبة في كل حياتك قبل غوانتانامو؟
وبماذا أجاب؟
سامي الحاج: روى لي أنه كان هائما في عشق فتاة ومستعد للزواج منها. ولكن عندما طلب يدها من أهلها، لم يقبلوا به
.
حوار: شتيفاني دويتسر
ترجمة: فلاح آل ياس
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012