تمجيد النازية للأتاتوركية وإعجاب هتلر بمؤسس تركيا القومية
لم يعد البحث التاريخي يقدِّم أية مفاجآت كبيرة حول حقبة القومية الاجتماعية (النازية) إلا نادرًا. ولكن الآن يعرِّفنا المؤرِّخ الألماني شتيفان إيريش بواحدة من مثل هذه المفاجآت. فقد اكتشف في مصادر تم نشرها في دراسة منذ فترة طويلة إعجابًا لدى اليمينيين الألمان بتركيا الأتاتوركية الحديثة، كان يتم حتى الآن التقليل تمامًا من حجمه، وقد أصبح قبل كلِّ شيء لدى القوميين الاجتماعيين وخاصة لدى أدولف هتلر نموذجًا ومصدر إلهام.
فقد كان أتاتورك من وجهة نظر الأوساط اليمينية بالنسبة لألمانيا في تلك الحقبة بمثابة شيء ناجح بعيد المنال. حيث تمكَّن بقوة السلاح من إعادة النظر في معاهدة سيفر وتعديلها - تلك المعاهدة التي تم فرضها على بلاده في عام 1920 وكانت تنصّ على تفكيك الدولة العثمانية بالإضافة إلى تقسيم الأراضي التركية بين القوى الأجنبية.
كما أنَّ حرب التحرير التركية التي قادها بنفسه انتهت بمعاهدة لوزان في عام 1923. وحدود تركيا الحالية تعود إلى تلك المعاهدة. وفي الصحافة الألمانية وبصورة خاصة في الطيف اليميني ارتقت القضية التركية بسرعة إلى الموضوع الأهم في السياسة الخارجية. ففي مئات المقالات كان يتم التعبير عن الإعجاب بأتاتورك بفضل إنجازاته والطريقة التي وحَّد من خلالها شعبه وعارض بنجاح الإملاءات المفروضة على تركيا من قبل القوى الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى والتي كان يجب على ألمانيا أيضًا الخضوع لها.
"تركيا البطولية"
وحينها كان شعار حاجة الألمان إلى "التعلم من الدرس التركي" ينتشر في البلاد - لدى القوميين الاجتماعيين وخاصة بشكل عسكري. وفي صحيفة فولكيشَر بيأوباختَر "المراقب الشعبي" النازية كان يتم تمجيد "تركيا البطولية" وكذلك دورها "الرائد في الكفاح". فقد ورد في هذه الصحيفة خطاب يفيد بأنَّ "المرء في ألمانيا لن يفشل ذات يوم في تطبيق الأساليب التركية".
وشتيفان إيريش يفترض هنا أن هتلر مؤلف لهذا الخطاب، غير أنَّ هذه الصحيفة أوقَفت - وبشكل مؤقت بعد فترة قصير من نشر هذه السطور - اهتمامها بهذا الموضوع، الأمر الذي تزامن مع نهاية عمل هتلر لديها كمؤلف.
ولكن مع ذلك فإنَّ أتاتورك "الرائد في الكفاح" أصبح وعلى نحو متزايد بالنسبة لهتلر وكذلك بالنسبة للقوميين الاجتماعيين نموذجًا مؤثِّرًا. وهكذا بات هذا الموضوع في الأشهر التي سبقت انقلاب هتلر الموضوع المهيمن على التغطية الإعلامية في صحيفة هايمات لاند "الوطن" النازية، التي كانت تعدّ ثاني بوق من أبواق حركتهم في مدينة ميونخ. وكانت تتم مقارنة أوجه التشابه بين تركيا والوضع الألماني.
وكان من المفترض أن يتم "تحرير" ألمانيا انطلاقًا من مدينة ميونخ البافارية. وبناء على ذلك تم توجيه طلب في عنوان هذه الصحيفة الرئيسي في السابع والعشرين من شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 1923 - أي قبل أسبوعين فقط من الانقلاب - جاء فيه: "هنا حكومة أنقورة!"، في إشارة مباشرة الى أنقرة ("أنقورة") التي كانت نقطة انطلاق أتاتورك في ثورته الوطنية.
قدوة هتلر الكبرى
لقد حاول هتلر أمام المحكمة وخاصة من خلال الإشارات إلى تركيا الدفاع عن نفسه والرد على اتِّهامه بالخيانة العظمى. وعلى الرغم من أنَّه اعتمد على موسوليني في المقام الثالث فقط بعد اعتماده على التركيين الشابين أنور باشا ومصطفى كمال أتاتورك كنموذج مثالي للوطنية، إلاَّ أنَّ المعنيين لم يأخذوا تقريبًا بعين الاعتبار في أبحاثهم حول هتلر شخصًا آخر غير هذا الإيطالي (موسوليني)، بحسب تعبير شتيفان إيريش.
وعلى الرغم من أنَّ انقلاب هتلر جعل خيار "أنقرة في ميونخ" خيارًا باليًا عفا عليه الزمن، فقد حافظت الأحداث في تركيا على مكانها البارز في الصحف اليمينية الألمانية في عهد جمهورية فايمار.
وكذلك على الرغم من أنَّ هتلر بالذات قد أصبح - بسبب الدعاوى القضائية التي كانت تهدِّده - حذرًا فيما يخض المقارنات العلنية مع أتاتورك، والتي بات من الممكن الآن أن يتم تفسيرها على أنَّها دعوة إلى التمرُّد، إلاَّ أنَّ شتيفان إيريش يجد - حتى في فقرات تبدو بالأحرى مبهمة - فيما يتعلق بهذه المسألة في كتاب هتلر "كفاحي" إشارات واضحة إلى تمجيد هتلر لعمل أتاتورك المسلح.
وفي خطاب لهتلر يعود إلى عام 1928 وكذلك في تصريحاته الملغاة "التي أبداها حول التحقيقات في قضية الخيانة العظمى" في عام 1929، تمت مرة أخرى مقارنة أوجه التشابه بين القوميين الاجتماعيين وحركة مصطفى كمال أتاتورك.
تركيا (الجديدة) نموذجًا
وبعد فترة قصيرة من استيلائه على السلطة أصبح هتلر واضحًا للغاية في هذا الصدد. ففي حديث مع صحيفة ميليّت التركية، بالغت في نقله حينها الصحافة الألمانية، أعرب أدولف هتلر في شهر تمُّوز/يوليو 1933 عن إعجابه بأتاتورك، الذي كان - بحسب تعبير هتلر - "نجمًا ساطعًا" بالنسبة له أثناء "فترة كفاحه" في مدينة ميونخ.
ومنذ ذلك الحين تحوَّلت عملية تمجيد أتاتورك، التي يثبتها المؤلف بأمثلة عديدة مقتبسة من طقوس الدولة النازية والإعلام الموجَّة، إلى عقيدة رسمية وبات يتم جعل كلِّ شيء تركي (جديد) نموذجًا يحتذى به، بحيث أنَّ حتى بعض القائمين على الدعاية النازية أصبحوا غير مرتاحين مع هذا الوضع.
ومثلما يذكر المؤرخ شتيفان إيريش في كتابه هذا فإنَّ "التطهير العرقي" في تركيا، أي ما زُعم أنَّه كان عملية تخلص من المجتمع العثماني القديم المتعدِّد الأعراق، نال إعجاب النازيين بصورة خاصة.
وفي هذا الصدد يقول المؤرخ شتيفان إيريش إنَّ هتلر قد كره الأرمن - الذين كان يعرف مصيرهم المأساوي - أكثر من كرهه لليهود. ويضيف أنَّ أوجه التشابه هنا تعتبر أكثر من واضحة. وشتيفان إيريش الذي أثارت دراسته هذه ضجة كبيرة في الصحافة التركية، سيُهدِي لهم بالذات كتابه التالي الذي من المفترض صدوره في خريف عام 2015.
جوزيف كرواتورو
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2015 ar.qantara.de
كتاب "أتاتورك في مخيلة النازيين" للمؤرخ الألماني شتيفان إيريش: صدر عن مطبعة بلكناب التابعة لمطبعة جامعة هارفارد في كامبريدج ولندن، في عام 2014.