استراتيجية نظام الأسد مستقاة من تكتيكات روسيا ضد الشيشان
عندما عرض أحد المقاتلين السوريين (من الجيش السوري الحر) المزيد من فيديوهات العنف المرعب على جوناثان ليتل، تناول جوناثان دفتر ملاحظاته وكتب: "أجهزة الهاتف الذكية هذه مَعارِض للرعب". وقد دوّن ليتل هذا المستوى الهائل من العنف، الذي عايشه بنفسه، وسجلته أجهزة الهاتف المحمولة الذكية أيضاً: أطفال وطاعنون بالسن ملقون على أرضية عيادة تحت الأرض، موتى وجرحى بنيران قناص، وآخر طفل على قيد الحياة لعائلة أصبحت من بين الموتى -الطفل مرعوب ومصاب بالهستيريا- وندوب وتشوهات لا تحصى بعد عمليات القصف.
يصر جوناثان نفسه على أن ما يكتبه هو "وثيقة وليس عملاً أدبياً". وللتدليل على مصداقيته، يصف نصه بـ"المدونة"؛ فالجمل والعبارات قصيرة، مُصاغة بلغة نثرية مكثفة.
أسلوب الكتابة هذا، الحاد والخام غير المنقح، يعكس تركيز جوناثان على الأحداث المرعبة في حمص. ويبرر جوناثان، ببساطة، جمع تدويناته ومذكراته في كتاب برغبته بأن يكون شاهداً "لتدوين اللحظة الوجيزة والمقتضبة-التي لا شاهد عليها- للانتفاضة ضد نظام بشار الأسد، وذلك قبل أن تتحول الانتفاضة إلى حمام دم مستمر إلى لحظة كتابتي هذه السطور"، يقول جوناثان.
اقتفاء أثر وجذور تكتيكات النزاع
تحتوي النسخة الإنكليزية من الكتاب على مقدمة تتناول -ليس فقط- نشوء تنظيم "الدولة الإسلامية"، بل توضح أيضاً الرابط بين التنظيم واستراتيجية نظام الأسد، القائمة على مفاقمة النزعات الطائفية (وقد استقى التجربة من تكتيكات روسيا ضد الشيشان). يوضح ذلك جوناثان بالقول إنه بعد نيل الشيشان الاستقلال قامت الشرطة السرية الروسية بتمويل ميليشياوي إسلاموي يُدعى عربي بارايف. وتبنت ميليشيا بارايف نفس التكتيكات التي تعتبر اليوم علامة تجارية مميزة لتنظيم "الدولة الإسلامية": قطع رؤوس المدنيين "اللاّ -إسلاميين" وخطف الصحفيين والأجانب. ولم ينتج عن هذا عزوف وسائل الإعلام عن الذهاب للشيشان، بل وأيضاً إلى تراجع "حسن الظن" بالمقاتلين الشيشان في أرجاء العالم. وعلاوة على ذلك، فقد "وجد الرئيس الشيشاني المنتخب أصلان مسخادوف نفسه مجبراً -بضغط من المجموعات الإسلاموية المارقة- إلى التطرف في مواقفه"،حسب ما يذهب إليه جوناثان في كتابه.
وقد وثّق صحفي روسي شجاع علاقة التعاون بين المخابرات الروسية والإسلامويين في الشيشان لوضع سيناريو يشبه ما يحدث في سوريا اليوم: متطرفون ومعتدلون، الإعدامات، عمليات الخطف، وعمليات تصوير كل هذه الفظائع وعرضها في وسائل الإعلام.
يدعي جوناثان أن نفس الاستراتيجية تم تطبيقها في سوريا، وذلك للفت الأنظار بعيداً عن فظاعات النظام ولجعل النظام لاعباً لا يمكن الاستغناء عنه في "الحرب على الإرهاب". يحاول جوناثان الكشف عن كيفية تحول هذه الانتفاضة ذات القاعدة الشعبية العريضة من البروليتارية والفلاحين إلى حرب أهلية طائفية، أكثر دموية من أي مدى كان يمكن يتخيله أحد من المقاتلين، عندما كانت الانتفاضة في مهدها.
برغم العنف العاصف، فإنه يمكن تلمس إشعاعات الحياة اليومية الاعتيادية للرجال الذين التقى بهم جوناثان من خلال ما دونه: التحضير اليومي لوجبات الطعام في أبنية مهجورة التهمتها نيران المعارك، والعمل الروتيني للصحفيين المواطنين بتصوير وتحميل مشاهد النزاع الدامي على الإنترنت، العناية بالجرحى في عيادات ومشافي سرية-وهي ضرورة اقتضاها قيام النظام باعتقال أي جريح يُنْقَل إلى المشافي الحكومية.
دوامة من التفاصيل
يركز جوناثان على تفاصيل الحياة اليومية ودقائق الأمور ويقفز بعدسته -وبسرعة- من شخص إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن موقع إلى آخر، مما يجعل المشاهد ضبابية ويفقدها الحدة والوضوح. يذرع جوناثان مع مصوره والمقاتلين من "الجيش السوري الحر" المدينة جيئةً وذهاباً على متن الدراجات النارية وسيارات الأجرة والشاحنات وعلى الأقدام؛ ولذا فإن خصوصية الأوضاع والحارات والشخصيات تضيع في زحام تكرار الحوادث، ناهيك عن الاقتضاب والإيجاز والعجلة في الوصف.
ربما كان لطبيعة العمل الصحفي تأثير على الطريقة التي قدم بها عمله: على الرغم من أن جوناثان وضع نفسه بجانب المقاتلين، فقد بقي مراقباً خارجياً. ولكنه تمكن من التقاط تفاصيل الحياة الومية الصغيرة ودقائق الأمور، وربطها بالأبعاد الكبيرة والكلية للانتفاضة وتأثيرات القمع. ومع ذلك فإن جوناثان نفسه يشير إلى الإمكانية المحدودة لالتقاط وتقديم سردية شاملة عامة لكل ما يحدث في سوريا.
"متحف الرعب"
في خاتمة الكتاب وبفضل إدراكه المتأخر، يؤكد جوناثان في نظرة إلى الوراء: "بعد أن فرغت من الكتابة وغادرت سوريا، جن الجنون نفسه في حمص وفقد صوابه. أعتقدتُ أني رأيت ما يكفي من العنف وعرفت معناه. ولكني كنت مخطئاً؛ إذ أن الأسوء كان قد بدأ للتو...".
الكتاب أكثر من مجرد مذكرات ترصد كيف تحولت-في ظل نظام الأسد- المدن السورية الصاخبة، التي تعج بالحياة إلى "متحف للرعب"، والبداية كانت من حمص. وخلف السجل اليومي لمجريات الهجوم على حمص يكمن شجب للسياسة العالمية، التي سمحت بالتدمير المستمر لحيوات السوريين ورفع وتيرة هذا التدمير لهذه الدرجة الكبيرة، التي نشهدها اليوم: "كل هذا كان يجب ألّا يكون. كانت هناك طرق أخرى، وإمكانيات أخرى، ومستقبل آخر". ويتابع مضيفاً: "الشعار الذي يردده قادتنا العظام بلا كلل، 'لم يكن بإمكاننا فعل أي شيء'، غير صحيح. من دون لامبالاتنا القاسية، وجبننا وقصر نظرنا، ربما كانت الأمور ستكون مختلفة".
نهرين الموسوي
الترجمة عن الإنكليزية: خالد سلامة