كولونيا...مدينة الحب لا الجنس
طرق علماء النفس ميدان الجنس والعلاقات الجنسية وتعددت آراؤهم ومذاهبهم وهم مجمعون على أنّ الجنس يمكن أن يكون طاقة لتزويد الحياة بالمعنى، ويمكن أن يكون طاقة لتدمير الإنسان، وما الحرب والقتل والسادية الذهنية عندهم إلا شكلا من أشكال الجنسية المدمرة، وحسب إريك فروم فإن "الرغبة الجنسية حتى عندما لا يكون الحب موجودا هي تعبير عن الحياة وإعطاء اللذة وتقاسمه.
ولكن الأعمال الجنسية التي تتصف بأن أحد الشخصين موضوع لاحتقار الآخر وإهانته إيقاع الأذى عليه ليست إلا انحرافات جنسية خطيرة، لا لأنها لا تخدم الإنجاب بل لأنها تحرّف دافع خدمة الحياة الى دافع خنق الحياة".
دقُّ ناقوس الخطر لكن من دون تسييس
وتشكل اعتداءات كولونيا أمام كاتدارئيتها ناقوس خطر يجب بحثه من منظور علم النفس والجريمة دون تسييس أو استغلال، يجب دراسة الذهنية التي تدفع للجريمة بغية القضاء عليها، ولعلّ التعميم واتهام الغير في أخلاقهم وسلوكياتهم وأقصد هنا اللاجئين الأجانب عموما في ألمانيا الاتحادية لن يساهم في القضاء على المظاهر السلبية والمرضية والسلوكية والتي تزيد من حفر الخنادق بين الأجانب وسكان البلاد الأصلية بدل إقامة جسور التواصل والثقة والتحابب في المجتمع الألماني.
وهنا من المستحسن أن نذكّر بما كتبه الروائي الألماني الكولوني الكبير هاينريش بول Heinrich Böll والحاصل على نوبل في الآداب في روايته (شرف كاترينا بلوم الضائع): "هذه الفتاة الجميلة الرائعة كيف ساهمت الصحافة في تحطيمها، فليس أصعب على المرء من أن تتهمه في أخلاقه أو تعتدي على أخلاقه وتقتحم حصن حريته".
فالغريزة الجنسية تكون عفوية وهنا تكون خطورتها وعندما تتحول هذه الغريزة الى فعل حيواني غرائزي وجب على الباحث أن يكون محيطا ملما بكل التفاصيل من العقلية الغرائزية الى المحيط الى طبيعة الفعل وصورته.
التحرش تعبير عن التوتر والقلق والاحباط
يبدأ التحرش الجنسي من النظرة الشهوانية البسيطة الى التحرش اللفظي والاحتكاكي وقد يصل إلى الاغتصاب المباشر وغير المباشر.
والشعور بالخواء والعجز تدفع بالمرء ليكون منحرفا جنسيا فالشلل النفسي يدمر الشخصية ويجعل الطاقات الحركية والعصبية مدمرة للإنسان ولهذا يكون التركيز على العوامل التي تجعل من الإنسان مُنشلّا نفسيا.
وعالم النفس إيريش فروم Erich Fromm ينظر إلى المريض نظرة إنسانية متعاطفة مهما كان عرقه أو قوميته وكل ما يهمه هو دراسة الحالة المرضية وعوامل نشوئها وإمكانيات التغلب عليها ومساعدة الإنسان على الحرية الداخلية، لذلك يصر على أن الإنسان الشاذ أوالنكروفيلي إنسان لم يفقد إنسانيته وليس شيطانا وقد يكون عند كل واحد منا شيء من هذا النزوع، وهنا يخرج (فروم) بنتيجة مفادها أنه "حتى أكثر الناس شرا يستدعي شفقتنا".
التحرش سلوك مرَضي مشين لا يرتبط بدين أو عرق أو مذهب
والتحرش أينما كان يعبر عن حالة مرضية داخلية سببها التوتر والقلق والإحباط كعوامل ذاتية وكذلك الازدحام والفوضى كعوامل خارجية ولهذا يقول لورنتز: "الازدحام يؤدي الى العدوانية المتزايدة وهو شرط أساسي لتزايد العنف".
كما يجب التنبه الى أن اللاجىء والهارب من الحرب والموت تتحرك عنده نزعة التعلق بالحياة أكثر من غيره، فهو يشعر بالحاجة إلى الاتصال بعد الانفصال عن وطنه حيث يحتاج الإنسان -وهو مدرك لانفصاله- إلى العثور على روابط جديدة بإخوانه من بني البشر، وتعتمد سلامته العقلية على ذلك. ومن دون الروابط الفعالة والقوية مع البشر من شأنه أن يعاني الانعزال والضياع التّامين، و في المقابل من الممكن أن يتصل بالآخرين ويحبهم ولكن يتطلب ذلك الوجود والاستقلالية والإنتاجية.
أما إذا لم يكن إحساسه بالحرية متطورا فسيرتبط بالآخرين تواكليا، أي بأن يغدو جزءا منهم أو يجعلهم جزءا منه وفي هذه العلاقة التواكلية إما أن يسعى للسيطرة عليهم (سادية) أو أن يسيطروا عليه (مازوخية) ولذلك كما يقول فرويد: "إن تخفيف التوتر هو القانون الأساسي لتأدية الأعصاب وظيفتها".
ولذلك فإن حوادث التحرش سواء في كولونيا أو أي مكان في العالم يلزم على الدولة بحثها من منطق علم السلوك الإجرامي ومن منطق علم النفس والصحة النفسية دون ربطها بأحكام سياسية مسبقة، ولا بد من الحيلولة دون تكرارها عبر دورات الإرشاد النفسي والتربية الجنسية والتعجيل بلم شمل الأسر والزوجات والأطفال للأجنبي اللاجىء، هذا من جهة، وإحكام المراقبة وضبط التجمعات البشرية الكبيرة وإيقاع العقوبات المنصوص عليها في القانون بما يتعلق بجرائم التحرش الجنسي .
إن حوادث كولونيا تحدث في كل مكان من العالم يوميا من الحافلة إلى القطار الى الشوارع الضيقة إلى الساحات الكبيرة، وهي ظاهرة مرَضية وسلوك جرمي مشين لا يرتبط بدين أو عرق أو مذهب بقدر ما يرتبط بدوافع نفسية سيئة وأمراض اجتماعية خطيرة يجب معالجتها وفهمها. وأعتقد أن تعلم اللغة ليست الطريقة الوحيدة لتحقيق الاندماج بين الأجانب والشعب الألماني بقدر ما نحتاج الى دورات وورش عمل في التثقيف والتربية وتفهم ثقافة الآخر وإقامة جسور التواصل والتحابب حتى لا نشعر بما قيل يوما ما عن الشاعر الألماني هاينه Heine "إنه منبوذ في ألمانيا وغريب في فرنسا".
منصور حسنو