لا حرية ولا عدالة في سوريا في زمن "أهون الشرين"
يقوم بشار الأسد بدوره المُجسَّد كَـ "أهْوَن الشرَّيْن" بشكل جيد. وها هو يحتفل الرئيس السوري منذ أعوام بتحقيقه نجاحًا تلو الآخر. فمع حكمه يعرف المعنيون ما يوجد لديهم.
السوريون لديهم نظام حكم يشبه المافيا من حيث تنظيمه، يحكمهم بالخوف ويمارس التعذيب بشكل ممنهج - وعلى أية حال أفضل من خلافةٍ معادية للحياة. من السهل على الإسرائيليين التعامل مع الأسد كخصم مجاور يمكن التنبُّؤ بأفعالِه - لأنَّ المتشدِّدين المؤدلَجين يمكن أن يكونوا أسوأ. وكذلك باتت في هذه الأثناء الولايات المتَّحدة الأمريكية في عهد دونالد ترامب تجد من جديد أنَّ آية الله خامنئي في إيران " أكثر شرًّا" من "طاغية" دمشق.
صحيح أنَّ أوروبا غاضبة من جرائم حرب الأسد، ولكنها تخاف أكثر من الفوضى وانهيار الدولة وقدوم المزيد من اللاجئين. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ شبيحة النظام يقتلون السوريين فقط ولا يقتلون أوروبيين، ولذلك فكل شيء أقل سوءًا مما يبدو.
ولهذا السبب فقد نجح الأسد في الارتقاء إلى منزلة "أهون الشرَّين". وبفضل الدعم الروسي والإيراني، فقد دمَّر كلَّ بديل حقيقي لحكمه. اتَّفقت جميع الأطراف الفاعلة في النزاع السوري على بقائه في السلطة. وتمكَّن جهازه الأمني والدعائي من خلق انقسام في المجتمع: العلويون والسُّنة يكرهون بعضهم بعضًا، المعتدلون والمتطرِّفون يتحاربون ضدَّ بعضهم، العرب والأكراد يواجهون بعضهم في قومية عمياء. وما من طرفين متنازعين في سوريا إلا وكان الأسد ثالثهما الضاحك المستفيد من نزاعهما.
نموذج ليس ديمقراطيًا ولكن "يمكن تحمُّله"
إنَّ مَنْ يرغب بعد في متابعة هذا السيناريو على الهواء مباشرة، يجب عليه مراقبة التطوُّرات في شمال شرق سوريا. وهناك يحكم حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي (PYD) - وهو الحزب الشقيق لحزب العمَّال الكردستاني (PKK) - منطقةً ذات إدارة ذاتية واسعة النطاق. نظام حزب واحد يضطهد النقَّاد، ولكنه يدعم النساء - نموذج ليس ديمقراطيًا، ولكن من وجهة نظر الكثير من الأكراد السوريين يمكن تحمَّله بالمقارنة مع الأوضاع السائدة في بقية أنحاء البلاد وأماكن أخرى من المنطقة.
القوَّات المسلحة التابعة لحزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي هي وحدات حماية الشعب (YPG)، التي قاتلت ضدَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" على الأرض - بدعم جوي من الولايات المتَّحدة الأمريكية وكذلك من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وتقريبًا في كلِّ مكان تم فيه دحر تنظيم داعش منذ عام 2014، تولى السلطة حزبُ الاتِّحاد الديمقراطي الكردي - وفي بعض الأماكن بالاشتراك مع شركاء محليين.
ولذلك فإنَّ منطقة نفوذ هذا الحزب الكردي أصبحت تشمل في هذه الأثناء ربع سوريا، بما في ذلك أيضًا مدنًا عربية مثل مدينة الرقة. ومنذ شهر آذار/مارس 2016 يطلق الحزب على نفسه اسم الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا، باللغة الكردية "روج آفا".
تعتبر روج آفا بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان "دولة إرهابية" تُهدِّد أمن تركيا بسبب علاقاتها الوثيقة مع حزب العمَّال الكردستاني. ولهذا السبب فهو يريد طرد حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي من المنطقة. وبحسب إردوغان فإنَّ ما تم تحقيقه في محافظة عفرين الكردية في مطلع عام 2018 يجب تكراره شرق نهر الفرات. وهناك يقف الجيش التركي مستعدًا للهجوم - جنبًا إلى جنب مع المعارضين المسلحين السوريين، الذين اِنكفأوا في السنوات الأخيرة من ثوَّار إلى أتباع لتركيا. وهم بالنسبة لإردوغان مرتزقة مفيدون في محاربة أعداء الدولة التركية، أي: وحدات حماية الشعب. وبناء على ذلك فإنَّ حلفاء الغرب هم إرهابيو أنقرة.
الولايات المتَّحدة الأمريكية لا تتَّبع أية استراتيجية
لقد أظهرت المحادثات بين ممثِّلين عن الجانبين الأمريكي والتركي ألاَّ شيء سيتغَّير في ذلك حتى إشعار آخر. سافر مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون إلى أنقرة لكي ينتزع من القيادة التركية وعدًا بعدم مهاجمة الأكراد في حال انسحاب القوَّات الأمريكية. غير أنَّ إردوغان ردَّه خائبًا. وبهذا يبقى حاليًا الوجود الأمريكي هو الضمان الوحيد لعدم إقدام تركيا على غزو منطقة "روج آفا".
وبناءً على ذلك فإنَّ السؤال الكبير هو: متى وفي ظلِّ أية ظروف ستقوم الولايات المتَّحدة الأمريكية بسحب جنودها البالغ عددهم ألفي جندي من سوريا، وكيف تريد بعد ذلك منع إردوغان من شنّ الهجوم.
توجد في واشنطن إجابات كثيرة على السؤال حول خطط الانسحاب الأمريكي من سوريا، بحيث ألاَّ شيء يبدو محسومًا. الرئيس ترامب يناقض نفسه باستمرار في تغريداته على موقع تويتر وبياناته - ففي وقت ما قال يجب أن يتم الانسحاب بسرعة، ثم ادَّعى أنَّه لم يقل بتاتًا إنَّ الانسحاب يجب أن يتم بسرعة، ثم قال إنَّه لا يريد البقاء في سوريا (التي وصفها بأنَّها "رمل وموت")، وهو لا يريد محاربة تنظيم داعش، لكن يجب أن يحاربه الآخرون (إيران وروسيا وتركيا).
وبعد ذلك صرَّح من جديد بأنَّه لا يريد الانسحاب تمامًا حتى اختفاء تنظيم داعش، ويجب حماية الأكراد، ولكن من حقِّ أنقرة أن تحارب "الإرهاب" (المُتمثِّل من وجهة نظر إردوغان في وحدات حماية الشعب، ومن وجهة نظر ترامب في داعش). ومن هذه المناوشات اللفظية السريعة المتَّسمة بالجهل ومن دون اتِّباع أية استراتيجية، يحاول وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون استخلاص سياسة عملية - ولكن دون جدوى.
لا علاقة لذلك بالحرِّية والعدالة
ومن ناحية أخرى من السهل ببساطة الإجابة على السؤال: كيف تريد الولايات المتَّحدة الأمريكية حماية الأكراد من دون وجود قوَّات لها على الأرض؟ والجواب هو: أمريكا لا تستطيع فعل ذلك. لقد أدرك ذلك منذ فترة طويلة كلٌّ من حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب وباتا يبحثان الآن عن خلاصهما في مكان آخر - في موسكو ودمشق.
والانسحاب الأمريكي يمهِّد الطريق لخطط بوتين وبالتالي لعودة الأسد إلى شمال شرق سوريا. موسكو تريد إعادة المنطقة إلى تحت سيطرة النظام الكاملة وسحق الإدارة الذاتية الكردية وخداع حزب الاتِّحاد الديمقراطي ببعض الحقوق الثقافية وكذلك دمج وحدات حماية الشعب في القوَّات المسلحة السورية.
والحسابات هي أنَّ إردوغان سيتخلى في ضوء هذا الاحتمال عن الهجوم على شمال شرق سوريا. لا سيما وأنَّ هذا الهجوم يعتبر موضوع جدال إلى حدّ كبير داخل القيادة التركية، وذلك لأنَّ وحدات حماية الشعب شرق نهر الفرات مجهَّزة بفضل الأمريكيين بشكل أفضل، كما أنَّ أي هجوم مثل الهجوم على عفرين في العام الماضي (2018) سيثير انتقادات دولية وتضامنًا مع الأكراد.
ولهذا السبب فإنَّ رؤية بوتين تجد في أنقرة آذانًا صاغية: إذا تقدَّمت قوَّات الأسد فإنَّ وحدات حماية الشعب ستنسحب، وسيعمل النظام على الحدود كمنطقة عازلة بين حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي [في سوريا] وحزب العمَّال الكردستاني [في تركيا] وسيكون الأسد هو الوحيد القادر على ضمان "وحدة سوريا الإقليمية"، وبالتالي القادر على منع الأكراد وبشكل مستدام من التمتُّع بالحكم الذاتي.
وهذا يعيدنا إلى دور الأسد المفضَّل إليه باعتباره "أهون الشرَّين". فمن وجهة نظر حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي يعتبر النظام السوري أفضل من إردوغان. كما أنَّ إردوغان يُفضِّل الترتيب مع الأسد على رفاق حزب العمَّال الكردستاني في السلاح. وهذا يؤكِّد أحد القواعد الأساسية في النزاع: عندما يتقاتل طرفان في سوريا، يستفيد الأسد دائمًا باعتباره الطرف الثالث الضاحك عليهما.
الأكراد لا يوجد لديهم أي خيار
إذًا كيف يبدو المستقبل في روج آفا؟ بناءً على طلب من وحدات حماية الشعب فقد أرسل النظام في بداية شهر كانون الثاني/يناير 2019 قوَّات إلى منبج، وهي المدينة الكبيرة الوحيدة الخاضعة للإدارة الكردية غرب الفرات. منذ فترة طويلة تريد تركيا السيطرة على منبج بمساعدة المعارضين المسلحين، علمًا بأنَّ المفاوضات مع الولايات المتَّحدة الأمريكية، التي توجد لديها قوَّات هناك، لم تسفر عن أي شيء. والآن تمركز جنود الأسد بين المعارضين المسلحين الموالين لتركيا وبين وحدات حماية الشعب الكردية، ولذلك يبدو أنَّه تمكَّن من تفادي احتمال إقدام تركيا على الغزو.
وإذا قدِّر للتعاون بين وحدات حماية الشعب والنظام السوري أن يسير في منبج بنجاح، فمن الممكن لدمشق أن ترسل المزيد من القوَّات إلى "روج آفا" وأن تتمركز على طول حدود سوريا مع تركيا.
في الوقت نفسه يتفاوض حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي مع النظام السوري من خلال وساطة روسية. وطالما بقي الأمريكيون محافظين على وجودهم العسكري هناك، يمكن للأكراد أن يطالبوا بالمزيد - وذلك لأنَّ انسحاب القوَّات الأمريكية غير الواضح أو غير الكامل أو البطيء من شأنه أن يُعزِّز موقفهم أمام النظام وروسيا.
ومع ذلك فإنَّ الاتِّفاق في النهاية سيراعي مصالح دمشق، لأنَّ قوى التدخُّل الرئيسية، أي روسيا وإيران وتركيا تريد جميعها في سوريا دولةً مركزيةً قوية. وهذا يعني في شمال شرق سوريا حصول النظام السوري على أكبر قدر ممكن من السلطة، وحصول الأكراد على أقل قدر ممكن من الحقوق.
لا يوجد لدى الأكراد أي خيار من دون دعم أمريكي أو أوروبي يمكنهم الاعتماد عليه. وبما أنَّ العالم كلّه لم يبقَ أمامه سوى القبول بالأسد، فإنَّ الأكراد أيضًا سيستمرون في التوصُّل إلى ترتيبات مع النظام. ولَعَلَّ حزب الاتِّحاد الديمقراطي الكردي يحفظ ماء وجهه بحصول الأكراد على تنازلات ثقافية ووسائل إعلام ناطقة بالكردية موالية للنظام وتعليم خاص بهم، ويتمكَّن من إخفاء خسارته للسلطة من خلال استيلاء خفي على السلطة من قِبَل النظام وبهياكل لامركزية زائفة.
يتبدد في الوقت الحاضر حلمُ أكراد سوريا في حصولهم على الحكم الذاتي. سيتم في المكاتب الإدارية والفصول الدراسية داخل "روج آفا" إنزال صور زعيم حزب العمَّال الكردستاني عبد الله أوجلان وتعليق صور الأسد من جديد. وكلُّ هذا لا علاقة له بالحرِّية والعدالة. ولكن يبدو على أية حال ألاَّ مكان للحرِّية والعدالة في سوريا في زمن "أهون الشرَّين" و"أسوأ الشرَّين".
كريستين هيلبيرغ
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
كريستين هيلبيرغ كاتبة ومحللة صحفية ألمانية.