فرنسة التعليم في المغرب - الفرنسية مسمار في نعش الإصلاح
يفتح قانون الإطار رقم 17.51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي الباب على مصراعيه أمام فرنسة التعليم بمختلف الأسلاك [المجالات]، تحت عناوين خدّاعة كالتناوب اللغوي والانسجام اللغوي وغيرها، بعد أن تمت المصادقة عليه قبل أيام. لتنتهي بذلك أشهر من البلوكاج [الانسداد] أوشك على تفجير الأغلبية الحكومية، بسبب تحفظ حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال على مادتين (2 و 31) تفرضان تعليم المواد العلمية والتقنية باللغة الفرنسية، لما في ذلك من مخالفة لمرجعية الحزبين ولثوابت والهوية الوطنية.
يأتي قانون الإطار الجديد ضمن سياق تنزيل مخرجات الرؤية الاستراتيجية 2015 - 2030 الرامية إلى إصلاح منظومة التربية والتعليم، بعدما انتهت كافة المحاولات -بدءاً من اللجنة الملكية لإصلاح التعليم عام 1957 حتى البرنامج الاستعجالي لسنة 2009- بالفشل الذريع في تقديم حلول للإخفاقات التي يعرفها التعليم، ثاني قضية في سلم أولويات المغاربة بعد قضية الصحراء.
"الانفتاح اللغوي يكون بـتدريس اللغات وليس بلغات التدريس"
وزير التعليم في المغرب لم يعرف حتى كيف ينطق كلمة "المتوجين " لكنه فالح في إقرار قانون "فرنسة التعليم " .
حسبي الله ونعم الوكيل. #اطمن_انت_مش_لوحدك pic.twitter.com/Jl1lOxOSjN— Fatiha Maroc (@FatiMar88640710) July 30, 2019
إذ تفيد كل المؤشرات بأن المسافة تزداد هوة بين الخطاب والممارسة، فما أكثر الأعطاب التي تتراءى في سجل التعليم، من هزالة في محتوى المقررات التعليمية، واكتظاظ في الفصول الدراسية، وارتفاع في نسب الهدر المدرسي، حتى بلغ الرقم أزيد من 400 ألف حالة في جميع الأسلاك. يضاف إليها متوسط سنوي يتجاوز 760 ألف حالة تكرار، أعلى مرتين تقريبا من المتوسط العالمي.
إضافة إلى تنامي ظاهرة العنف المدرسي، وتراجع مستوى التحصيل الدراسي، وتزايد الاحتقان المؤسسي، وضعف التكوين بالنسبة للموارد البشرية بتبني خيار التعاقد، وتدهور منسوب الرضا الوظيفي، بسبب تعاقب خيبات الأمل من الوعود المبشرة بالإصلاح.
يغض أنصار هذا القانون الطرف عن هذه الحزمة المعقدة من الاختلالات، مبشرين بالفرنَسة كوصفة سحرية بمقدورها علاج مشاكل التعليم قاطبة، وتحريك عقارب ساعة الإصلاح التي تعطلت منذ زمان. لذا يكفي الانفتاح على اللغات، وبدقة اللغة الفرنسية، من خلال اعتمادها كلغة للتدريس، في مختلف الأسلاك التعليمية: الابتدائي والإعدادي والثانوي، ضمن ما يسمى "التناوب اللغوي" الذي لا يعني عمليا سوى فرض لغة غير دستورية في النظام التربوي المغربي، فالانفتاح اللغوي في العالم يكون من خلال "تدريس اللغات"، وليس بـ"لغات التدريس".
لا خلاف حول أهمية تعليم اللغات الأجنبية الأكثر تأثيرا وتداولا وأهمية في البحث العلمي، بما فيها اللغة الفرنسية. لكن جوهر المشكل يكمن من ناحية، في الانفتاح الأحادي على لغة بذاتها، وتقديمها للمغاربة كجسر نحو العلوم الحديثة، والحقيقة نقيض ذلك تماما، وهذا ما يؤكده الإقبال الكبير للفرنسيين على تعلم اللغة الإنجليزية.
ومن ناحية أخرى، في كونه يأتي على حساب اللغتين الوطنيتين العربية والأمازيغية، فالدستور ينص في فصله الخامس على أن "تظل العربية اللغة الرسمية للدولة، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها، وتعدُّ الأمازيغية أيضاً لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة دون استثناء".
"افتراس لغوي وانتصار للوبي الفرنكفوني في حرب ثقافية"
إن ما جرى أقرب ما يكون إلى "حرب لغوية" وضعت أوزارها، بعد طول شد وجذب، بانتصار كبير للوبي الفرنسي، بعد نجاحه في تمرير قانون الإطار في البرلمان، بالرغم من التمثيلية المهمة فيه لأحزاب (العدالة التنمية 125 والاستقلال 46) ترى الفرنكوفونية استعمارا ثقافيا، وانسلاخا عن الهوية الوطنية. وذلك بقصد منح الشرعية للمد الفرنكفوني، وإضفاء المشروعية القانونية على سياسة "الافتراس اللغوي" التي انطلقت عمليا قبل سنوات.
تعود فرنسة التعليم إلى سنة 2015 مع حكومة بنكيران، حين عمم وزير التربية الوطنية حينها مذكرة يطلب بموجبها من مسؤولي الوزارة على الصعيد الجهوي (مديري الأكاديميات) تدريس المواد العلمية والتقنية في المرحلة الثانوية باللغة الفرنسية. تلى ذلك خلق ما سمي بـ "مسالك الباكالوريا الدولية"، بدءاً من سنة 2017، والتي ليست في الحقيقة سوى "باكالوريا مغربية مفرنسة" بأقسام خاصة، تقوم على معيار الانتقاء اللغوي.
"تمييز لغوي"
يعدم هذا التمييز اللغوي مبدأ تكافؤ الفرص، ويكرس تمييزا طبقيا وثقافيا وإقصاء اجتماعيا داخل المدرسة العمومية، فاللغة الفرنسية كانت على الدوام لغة النخبة وذوي الحظوة. يعزز هذا استحداث الوزارة لمسالك "الباكالوريا المهنية"، وبذلك يتوجه أبناء الفقراء والفئات الدنيا من الطبقة المتوسطة متوجهين إليها، مقابل توجيه أبناء الفئة العليا من الطبقة المتوسطة إلى المسالك الدولية المفرنسة، بينما يتكفل التعليم الخصوصي بتقديم خدماته لأبناء المحظوظين فقط.
في غمرة السجال بشأن الحرب اللغوية التي فرضها حماة مصالح الاستعمار الفرنسي على المغاربة، ضاعت الأسئلة الكبرى حول المناهج والبرامج والمعارف والكفايات والأهداف... وما إلى ذلك، مما يفترض أن يشكل مادة دسمة تطرح للنقاش والتداول العمومي، عند الحديث عن أي رؤية أو مشروع للإصلاح التعليم بالمغرب.
مهما حاول المرء البحث عن تفسير مقنع لتبرير قرار فرنسة التعليم -الذي قاومه المغرب طيلة عقود من الزمن، حين كانت فرنسا قوة دولية كبرى ذات شأن وصوت مسموع بين الكبار في العالم، وليس مجرد دولة تتخبط على أكثر من صعيد، ولنا في مظاهرات أصحاب "السترات الصفراء" وهجومات المتطرفين المتكررة أمثلة على ذلك- فإنه حتما سيعجز.
لكنه قد يجد في مقولة المفكر المغربي محمد عابد الجابري تفسيرا لما يجري مؤخرا في المغرب، حين قال: بأن ثمة "اتجاه في المغرب لتغليب الفرنسية على العربية حتى تسهل الحداثة عندنا. هل الحداثة يجب أن تكون لـ 10 في المئة من المغاربة أم للجميع؟ إذا كنا نريد الحداثة للشعب كله فعلينا فرنسته جميعا، وهذا أمر غير واقعي. يجب أن نبني الحداثة من داخل واقعنا ومن اللغة التي يتقنها كل المواطنين".
محمد طيفوري
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019