معركة الأردن ضد صفقة القرن وجائحة كورونا
"كان من الرائع بكل تأكيد السماح بالخروج مجدداً من المنزل مساءً"، تفيد سوزانه برونر، مراسلة الإذاعة السويسرية لشؤون الشرق الأوسط، مبتهجةً عبر الهاتف من عمان، بعد إعدادها في ذلك اليوم تقريراً صحفياً من قلب العاصمة الأردنية، وجلوسها مع الأصدقاء على مائدة للعشاء في الحديقة؛ وتضيف قائلةً: "لم يكن مسموحاً لأحد بتمضية المساء خارج المنزل منذ آذار/مارس 2020، فقد كنّا محظورين من التجوال بصورة كاملة".
غير أن التمتع بطعم الحرية هذا لم يدم طويلاً، فقد سُمح لسكان العاصمة الأردنية، البالغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة، بالخروج لمدة ليلتين فقط قبل نهاية شهر رمضان، من أجل التسوق لأيام عيد الفطر التالية، ولرؤية الأقارب والأصدقاء؛ وما أن بدأ عيد الفطر، ومرت أيامه الثلاثة، حتى عاد الوضع إلى ما كان عليه من حظر للتجوال.
"وفي المحصلة، لم يبقَ أي شخص في منزله خلال يومي الأربعاء والخميس قبل عيد الفطر، لدرجة بدا معها الأمر وكأن العيد قد صادف هذين اليومين، وليس بعدهما، حيث امتلأت المدينة عن بكرة أبيها بالناس خلالهما "، كما تذكر سوزانه برنر.
وقد راجت في عمان نكتة على صورة حزورة تقول: كيف يمكنك أن تربي فيروس كرورنا؟ الجواب: دع الناس تمضي مدة يومين خارج المنزل ثم اترك الفيروس لمدة ثلاثة أيام بعد ذلك ليفقس وحده.
أكبر إغلاق شامل على مستوى المنطقة برمتها
وها هي مراسلة الإذاعة السويسرية لشؤون الشرق الأوسط عالقة في العاصمة الأردنية لمدة تسعة أسابيع، إذ لا يسمح لأحد بالخروج أو بالدخول؛ وبذلك يسري في الأردن أضخم إغلاق شامل على مستوى المنطقة برمتها، حيث تم إغلاق كل شيء ما بين عشية وضحاها بكل ما تعنيه الكلمة في 16 من شهر آذار/ مارس 2020.
وقد كانت السيدة برونر عائدة لتوها من رحلة إعداد تقرير صحفي من إسرائيل، عندما جرى تسيير الدبابات إلى عمان بغية فرض طوق حولها، ومنذ ذلك الحين أصبحت الطرق المؤدية إلى بقية أنحاء البلد غير سالكة، فلا يُسمح إلا بنقل البضائع، مع استثناء بعض الرحلات للأشخاص الذين يحملون تصاريح خاصة؛ وقد برر العميد مخلص المفلح هذا الإجراء بالحيلولة دون تفشي الفيروس في بلد العشرة ملايين نسمة.
وكان الملك عبد الله الثاني قد منح رئيس وزرائه سلطات واسعة للحد من انتشار فيروس كوفيد-19. وسرعان ما أغلقت الأردن حدودها البرية مع كل من مصر وإسرائيل والعراق، وتم تعليق جميع رحلات الطيران من الأردن وإليها؛ كما يتوجب على أي شخص يدخل البلاد أن يدخل في الحجر الصحي لمدة 17 يومًا، وأن يقيم في فنادق حددتها الحكومة لهذا الغرض، وأن يلتزم بعدم مغادرتها.
ويُسمح بالخروج للتسوق خلال النهار، ولكن في المساء وخلال الليل يسري حظر تجوال شامل. وقد أوقفت الحكومة الأردنية إصدار جميع الصحف بدءاً من منتصف شهر آذار/مارس 2020؛ والصحفيون الذين يتناولون هذه الإجراءات المتشددة في الأردن في تقاريرهم غير مرحب بهم.
ومن يفكر بانتقاد هذه التدابير أو عدم تناسبها فيتعين عليه أن يتوقع أنه سيُواجَه بالقمع. وبذلك، يبلي هذا البلد الواقع على ضفة نهر الأردن بلاءً حسناً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نتائج هذه الإجراءات، حيث لم تتجاوز الإصابات 700 حالة عدوى، توفي منهم تسعة مصابين فقط (حتى 22 أيار/مايو 2020)؛ وترى حكومة عمان في ذلك نجاحاً للإجراءات الصارمة التي تقوم بها.
السيطرة على الجائحة بسرعة في أكثر البلدان احتضاناً للاجئين
وفي مقابلة مع قناة "سي بي إس" التلفزيونية الأمريكية، دافع الملك عبد الله الثاني عن هذه الاجراءات الصارمة قائلاً إن "هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها إحكام السيطرة بسرعة على الفيروس، حيث لم نسجل إصابات جديدة في الأيام القليلة الماضية"؛ وأضاف "نقوم حالياً بإعادة الحياة إلى مجراها الطبيعي ببطء".
والأردن هو البلد المحتضن لأكبر عدد من اللاجئين في المنطقة، بعد أن وجد الفلسطينيون والعراقيون والسوريون في هذه الدولة الصغيرة الواقعة على نهر الأردن ملاذاً للاجئين. فمن مجمل العشرة ملايين نسمة -الذين يشكلون عدد سكان هذا البلد- ينحدر أكثر من نصفهم من أصل فلسطيني، بالإضافة إلى حوالي ثلاثة ملايين لاجئ من العراق ومن سوريا بصورة خاصة.
وبعدد يضاهي 80 ألف لاجئ، يُعد مخيم الزعتري في شمال الأردن ثاني أكبر مخيم للاجئين في العالم. ويسود الخوف من تفشي فيروس كورونا هناك، ومن ثم انتشاره في كل مكان في محيطه.
ومع ذلك، يعيش فقط ما تصل نسبته إلى 20 بالمئة من اللاجئين في الأردن في مخيمات، في حين "يعيش الباقون بيننا"، كما يذكر الملك الأردني، ويضيف أن اللاجئين يتلقون نفس التعليم المدرسي والرعاية الصحية التي يتلقاها جميع المقيمون الآخرون في البلاد، "وهو ما يمثل تحدياً كبيراً" لهذا البلد.
ركود اقتصادي بتكلفة مرتفعة
يمر الوضع الاقتصادي في هذه الفترة في الأردن بظروف صعبة. فقد كان قطاع السياحة قد انتعش بسرعة قبل أزمة كورونا، حيث يولي السياح الأوروبيون اهتمامهم بهذه الأرض المذكورة في الكتاب المقدس، والغنية بالمواقع التاريخية؛ ويفضلون السفر بصورة متزايدة إلى مواقع الأوابد الأثرية مثل البتراء وموقع تعميد يسوع (السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام) على نهر الأردن.
وما لبث هذا الواقع أن تغير بعد أزمة كورونا. فالجمود الناتج عن حظر التجوال الشامل يستنزف الآن آخر احتياطيات الأردن الشحيحة أصلاً. وتقوم عناصر الجيش والشرطة بتوزيع المواد الغذائية والأدوية في المناطق السكنية. ويؤكد وزير خارجية ألمانيا الاتحادية هايكو ماس أن ألمانيا، ثاني أكبر دولة مانحة للأردن بعد الولايات المتحدة، ستبقى داعمة للأردن، يأتي ذلك في وقت يعتمد فيه الأردن على المساعدات الخارجية أكثر من أي وقت مضى.
غير أن المصائب لا تأتي فرادى. ففي خضم انشغال المملكة الأردنية في محاربة الوباء، أعلن الكنسيت الإسرائيلي أنه سيناقش قريباً خطة إدارة ترامب للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهي الخطة التي ستؤثر أيضًا بصورة مباشرة على الأردن.
وسرعان ما علّق الملك الأردني غاضباً على إعلان الكنسيت، متسائلاً: "هل الوقت مناسب حقاً لمناقشة حل الدولة أو حل الدولتين في خضم هذه الأزمة؟" أما النتيجة المرتقبة من هذه الخطة فهي ضم إسرائيل للضفة الغربية؛ وقد صرح العاهل الأردني بأن الأردن سيبحث في حال حصول ذلك مسألة إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل التي وُقِّعت في عام 1994.
خطة غير مقبولة
يذكر حسن البراري، عضو معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط والخبير المخضرم في ميدان العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية، لموقع قنطرة، أن الأردن لا يمكن ولا بأي حال أن يوافق على خطة إدارة ترامب.
إذ يعيش في الأردن لوحدها ما تصل نسبته إلى 40 بالمئة من مجموع اللاجئين الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، ومنهم أولئك الذين لجؤوا إلى هذا البلد في الفترة ما بين عامي 1947 و1948 بالتزامن مع الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، والذين أصبحوا اليوم جميعهم تقريباً من المتمتعين بالجنسية الأردنية. "هم الآن أردنيون"، يضيف البراري.
غير أن أولئك الفلسطينيين الذين فروا خلال حرب الأيام الستة (حرب حزيران / يونيو) في عام 1967 لم يحصلوا إلا على تصاريح إقامة. تلا ذلك إعادة نصف مليون فلسطيني من الكويت عام 1990 بزعم دعمهم لصدام حسين في حربه ضد جارته الكويت.
حتى أن زوجة الملك الأردني، الملكة رانيا، نفسها كانت في عداد الفلسطينيين الوافدين من الكويت إلى الأردن. ولم تسمح إسرائيل لفلسطينيي الكويت بالعودة إلى وطنهم؛ وبذلك فقد علق هؤلاء اللاجئون في الأردن، ولم يحصلوا إلا على "بطاقة صفراء" ذات وضع قانوني خاص بالضفة الغربية، وهي المنطقة التي باتت إسرائيل تريد ضمها بالكامل، كما يقول البراري.
ويشير البراري إلى أنه عندما تم وضع خطة السلام هذه في واشنطن، طُرحت على فريق يتألف بأكمله من مشاركين يهود فقط، وبذلك فإن الأمريكيين لم يناقشوا الخطة لا مع الفلسطينيين ولا مع الأردنيين، وذلك رغم كون الأردن حليفاً تقليدياً للولايات المتحدة.
كما أن الملك الأردني أتم دراسته سابقاً في الولايات المتحدة. لذلك يشعر العاهل الأردني بالاستخفاف به، وفقاً لتحليل حسن البراري المتخصص في العلوم السياسية والأستاذ المحاضر في العلاقات الدولية بالجامعة الأردنية في عمان.
فمن شأن هذه الخطة أن تضع مستقبل الأردن السياسي في مرمى "نيران" إسرائيل وأمريكا. فإذا ما وافق الملك الأردني على خطة ترامب، فإنه سيفقد وظيفته، بحسب ما يذكره حسن البراري. مضيفاً أن المسألة "تمس هوية الأردن"؛ فإذا حصل الفلسطينيون على دولتهم الخاصة، وعاد اللاجئون الفلسطينيون لأرضهم، فسيصبح لدى الأردنيين أخيراً دولة خاصة بهم.
وفي ختام تعليقه لموقع قنطرة يطرح حسن البراري حلاً مفاجئاً للقضية الفلسطينية غير اعتيادي: "سأقبل بحل الدولة الواحدة الشاملة، أي دولة ديمقراطية تجمع الفلسطينيين والأردنيين والإسرائيليين معاً".
بيرغيت سفينسون
ترجمة: حسام الحسون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
[embed:render:embedded:node:36404]