"التباهي بالفصل بين الدين والدولة ليس دقيقا كما نتصور"
شهدت السنوات الماضية في ألمانيا نشاطا كبيرا في الحوار مع المسلمين وضم الإسلام إلى الخريطة السياسية والاجتماعية والثقافية. وقد لعبت المؤسسات الكنسية، سواء الكاثوليكية أو البروتستانتية، دورا إيجابيا، وفي الغالب دورا رائدا، في التقارب من المسلمين. هذه المؤسسات كانت أكثر تفهما لأحاسيس المسلمين الدينية من القوى العلمانية في مجتمعنا التي صدر منها بين الحين والآخر تحديات علنية ضد الإسلام، لدرجة أن المرء كان يعتقد أحيانا أن الألماني المسيحي المتديّن متعاون مع المسلم المتديّن (أيّا كانت جنسيته) أكثر من المواطن الذي لا يدين بديانة.
ضجة حول منح الجائزة
لكن الأربعاء الموافق 13/5/2009 غيّر فيه المراقبون رأيهم على حين غرة، وتغيرت النظرة الخاصة بالحوار حول الإسلام حتى خُيّل للمرء أن ممثلي الكنيسة ذوي النفوذ القوي كشفوا عن وجوههم الحقيقية التي كانت منشرحة للحوار. تُرى ماذا حدث؟ كانت ولاية "هيسن" الواقعة وسط ألمانيا بمدنتها الشهيرة فرانكفورت تنوي منح جائزتها الثقافية لهذا العام، وقيمتها 45000 يورو للناشطين في الحوار البَيْنثقاقي، واختارت - بعيدا عن الأهواء - الممثلين الرسميين للمؤسسات الدينية، منهم الكاردينال الكاثوليكي كارل ليمان والرئيس السابق للكنيسة البروتستانتية بولاية "هيسن" المطران شتاين اكر Steinacker ورئيس الجالية اليهودية في فرانكفورت سالومون كورن Salomon Korn، ولعدم وجود ممثل رسمي للإسلام وقع الاختيار على فؤاد زسكن، مؤسس معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بجامعة فرانكفورت.
الحديث عن الفوارق
بيد أن فؤاد زسكن البالغ من العمر 85 عاما لم يقبل مشاركة سالومون كورن في الجائزة لأن تعليقاته المحابية لإسرائيل إبّان حرب غزة لم تكن مقبولة لديه. وبدلا من زسكن وقع الاختيار على نافيد كرماني، وهو كاتب ليبرالي ألماني وأستاذ في الدراسات الإسلامية ويبلغ من العمر 41 عاما. وكرماني أيضا له تحفظات تجاه سالومون كورن وتجاه رئيس وزراء ولاية "هيسن" الذي سيقوم بتسليم الجائزة. لكن كرماني فضّل قبول الجائزة على أن يقوم أثناء احتفال التوزيع بالحديث عن الفوارق.
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فحاليا لا يريد ممثلا الكنيستين المشاركة في الجائزة، وقالا إنهما ليسا على استعداد لقبولها حال تقاسم كرماني لهما. ذلك لأن الكاردينال ليمان والمطران شتاين اكر انزعجا من مقالة كتبها كرماني يصف فيه مشاعره تجاه لوحة صَلب المسيح للفنان الإيطالي جيدو رينى Guido Reni المتوفي 1642.
الصَّلب نوع من الاستخفاف بالرب؟
لقد عبّر كرماني في مقالته التي يصف فيها اللوحة عن اشمئزازه من عملية الصَّلب لدرجة أنه يجد فيها نوعا من الاستخفاف بالرب. ومع ذلك فيُخيّل إليه بسبب تأثّره بلوحة رينى أنه بدأ يصدق عملية الصَّلب، ويقول معلقا: "إن الصليب يعتبر بالنسبة لي رمز لا يمكن أن أتقبله لاهوتيا (...). أما الآخرون فيعتقدون كيفما يشاؤون، فأنا لست أعلمَ منهم. ولكني عندما أصلي في الكنيسة، الشيء الذي أفعله، أتحرس دائما ألا أصلي للصليب. ولما كنتُ جالسا في كنيسة القديس لورينزو في فلورنسا أمام لوحة جيدو رينى الموجودة في الهيكل كان المنظر مؤثرا ومباركا لدرجة أني تمنيت ألا أترك المكان. ولأول مرة ظننتُ، ولستُ أنا فقط، أنني بدأت أصدق عملية الصَّلب".
تشخيص الآلام عمل بربري
إن مَن يقرأ مقالة كرماني بروح حيادية سوف يتحير في بداية الأمر – على الأقل كمسيحي – من رفضه الشديد لعملية الصَّلب. ولكن القارئ سوف يندهش عندما يقرأ اعتراف المؤلف أنه "بدأ يصدق عملية الصَّلب". ثم يستطرد كرماني كاتبا: "علاوة على ذلك أجدُ أن تشخيص الآلام من الأعمال البربرية العدائية للجسم، وتعتبر أيضا جحودا تجاه عملية الخلْق التي ينبغي علينا أن نسعد ونستمتع بها، لأنها تجعلنا نقِرّ بعظمة الخالق. إنني أتفهم في داخلي رفض اليهودية والإسلام لعملية الصَّلب".
إن نص المقالة في مجمله يقوم على أحاسيس متناقضة بصورة حادة، وهو عبارة عن إخراج مسرحي للحوار بين المسيحية والإسلام وليس إهانة منطلقة من بواعث دنيئة، إنه بالأحرى تأمل فيلسوف لاهوتي. لكن ممثلي الكنيسة المسيحية لا يتذوّقون مثل هذا الإخراج الأدبي للحوار وما يواجهه من صعوبات. وهم في الحقيقة يرفضون إنكار عملية الصّلب من قِبل أحد المسلمين. وهنا يمكننا أن نقول: حسناً! إذا كان هذا رأيهم فلا بد أن نتقبل هذا الرأي. ولكن يجب عليهم أن يتصرفوا كما تصرف فؤاد زسكن ويرفضوا الجائزة، وهناك بدائل كثيرة يمكن ترشيحها للجائزة.
أسهل وسيلة للمعارضة
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. فقد كتب الكردينال ليمان خطابا شديد اللهجة إلى رئيس الوزراء كوخ طالب فيه بسحب الجائزة من كرماني، ووضعه أمام خيارين: إما أن يهين الكردينال ليمان والمطران شتاين اكر أو يضحي بكرمان. أما رئيس الوزراء كوخ فقد قرر أن يضحي بكرمان لأنه يمتهن الكتابة الحرة ولا يتقلد منصبا حكوميا أو مرتبة عالية ولا تقف وراءه أي مؤسسة. لهذا وجد مكتب رئيس الوزراء أن الاستغناء عنه يعتبر أسهل وسيلة للمعارضة، ولكن كان ذلك من سبيل الوهم. ذلك لأن نافيد كرماني يُعد من أشهر الكتاب المسلمين في ألمانيا، ولا تكاد توجد صحيفة يومية أو محطة إذاعية في ألمانيا إلا ونشرت مقالات أو ذاعت له محاضرات. كما أنه حاصل على جوائز وعضو في الأكاديمية الألمانية للغة والشعر وعضو المؤتمر الإسلامي الألماني الذي أقامته الحكومة الألمانية، وكانت كتبه إثراء لا يُنكر للحوار المسيحي الإسلامي.
لكن ردود فعل مثقفي ألمانيا على خطاب الكردينال ليمان وقرار رئيس الوزراء كوخ ضد كرماني تنمّ عن إجماع غريب، جاء فيها أن كرماني يستحق الجائزة وأن كلا من الكردينال ليمان والمطران شتاين اكر وولاية "هيسن" ورئيس وزرائها جعلوا أنفسهم عرضة للسخرية. كما تعالت النداءات الأولى بإلغاء هذا الاحتفال المهين تماما.
مناقشات حادة بين الكنائس حول عملية الصلب
لقد بين الكردينال ليمان والمطران شتاين اكر للجمهور أنهما ليسا أهلا للحوار. والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه الآن: هل رأيهم هذا يمثل الكنسية الكاثوليكية والبروتستانتية في ألمانيا؟ هل تخلى ممثلو الكنيسة الرسميين عن الحوار الجاد القائم منذ مدة طويلة فقط لأن المسلمين يقرّون به أم لأنهم ينفرون من كون المسلمين ينكرون عملية الصّلب؟ إذا كان ذلك فإنه يعد تراجعا مأساويا للسياسة الحالية. وهذا ما يعتبر من الأهمية بمكان بسبب المناقشات الحادة التي تدور بين الكنائس حول عملية الصلب.
قد يكون تراجع السياسة غريبا إذا وضع المرء في الاعتبار رفض الغرب الشديد أحيانا لمبادئ العقيدة الإسلامية، مثل السخرية بالنبي محمد في الرسوم الكاريكاتورية أو تدنيس القرآن في معتقل جوانتانامو أو في العراق، حيث يسود يوميا جدلا حول تطبيق الشريعة الإسلامية. وإذا لم تنه الكنيسة هذا الحوار حالا فعلى الكردينال ليمان والمطران شتاين اكر أن يعترفا بعدم أهليتهم ويتنازلوا عن الجائزة.
تجدد الحوار
أخيرا يبقى السؤال: كيف يمكن لولاية اتحادية ورئيس وزراء أن يتقبلوا أوامر من كردينال متذمر يبدو أنه ليس أهلا لإصدار حكم عادل. إن الرد المناسب على خطاب الكردينال ليمان كان يجب أن يحتوي على مطالبة ممثلي الكنيسة برفض الجائزة كما رفضها فؤاد زسكن. إن ما نتعلمه من هذا هو أن الفصل بين الدين والدولة التي نتباهى بها أمام الإسلام ليست دقيقة كما نتصور. أما بخصوص الحوار فيجب أن نتخذ المسيح قدوة في بعثته مرة أخرى وأن نجدد الحوار في أقرب وقت ممكن.
شتيفان فايدنر
ترجمة: عبد اللطيف شعيب
حقوق الطبع: قنطرة 2009
يعيش شتيفان فايدنر بمدينة كولونيا، حيث يعمل كاتبا ومترجما وباحثا في الشؤون والدراسات الإسلامية. كان من آخر إصداراته عن دار نشر Weltreligionen كتاب "الوجيز في صراع الحضارات، لماذا يعتبر الإسلام تحديا".
قنطرة
قراءة في كتاب "من نحن؟ ألمانيا والمسلمون فيها":
جدلية الهوية...مفهوم الاندماج
يحلّل الكاتب الألماني من أصل إيراني نافيد كرماني في كتابه الجديد "من نحن؟ ألمانيا والمسلمون فيها" رؤيته ومفهومه للهوية الألمانية، مفندا في الوقت ذاته الفكرة الشائعة بأن الانتماء لألمانيا يتطلب الانسلاخ عن ثقافة الموطن. بيآته هينرشس تقدم لنا هذا الكتاب.
كتاب لشتيفان فايدنر بعنوان "موجز لصراع الحضارات":
لِمَ وِلمن يعتبر الإسلام تحديًا؟
في كتابه الجديد يصف الباحث المختص بالعلوم الإسلامية، شتيفان فايدنر إلى أي حدّ يعتبر الجدال الدائر حول الإسلام و"القيم الغربية" مشحونًا بأفكار وآراء أيديولوجية ويبين الجهات التي تقف وراء لغة التحريض. كيرستن كنيبّ في قراءة لهذا الكتاب.
الكاتب الصحفي روبرت ميسيك والنقد الديني:
اللهم نجّنا من عودة الأديان!
على الرغم من أن روبرت ميسيك يمارس توجيه النقد الديني الكلاسيكي إلا أنه يُعتبر في الوقت نفسه من المعارضين الجادّين لمزاعم التخويف من الدين الإسلامي. كما يؤكد أن "المرء لا يستطيع إقناع الآخر بتفوقه الأخلاقي ما دام مستمرا في احتقار هذا الآخر". لويس جروب يعرفنا بملاحظات الكاتب ميسيك النقدية.