وجهة نظر: الدم الكردي والعيران التركي
فشلت ألمانيا ومعها الدول الأوروبيّة في إدماج ملايين الأتراك في مجتمعاتها، وفشلت في إيقاف التدخّل التركي في الشؤون الداخليّة الأوروبيّة، عبر تحريك الكتل البشريّة التركيّة في أوروبا لصالح تركيا وسياساتها، وضد قيم وقوانين الدول الأوروبيّة.
ويبدو أن سِحر "العيران التركي"، الذي يجتاح أوروبا، يفوق سحر النفط والغاز الخليجي! وأن حجم الصادرات التركيّة من الشاورما والعيران إلى أوروبا، يجعلها لا ترى حجم الأزمات السياسيّة والبشريّة التي تصدّرها تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والعالم! وإلاّ، ما هو السبب الذي يبقي أوروبا والعالم مكبّل الأيدي أمام كل ما يفعله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من غطرسة وطغيان في تركيا والشرق الأوسط والعالم!؟
لا يعطي التاريخي التركي مثالاً واحداً يقول: إن الأتراك تدخّلوا لحلّ أزمة أو مشكلة أو صراع إقليمي أو دولي، ونجحوا في ذلك. وما يفعلونه الآن في سوريا، هو احتلال كامل الأوصاف والأركان، طبقاً لتوصيف القانون الدولي لطبيعة وماهية الاحتلال.
ما هو السبب الذي يبقي أوروبا مكبّلة الأيدي أمام الغطرسة التركية؟
ورفض الكونغرس قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب القوات الأمريكيّة من تلك المناطق، كان لذرّ الرماد في الأعين وحفظ ماء الوجه الأمريكي الملطخ بالدم الكردي.
وعليه، المجتمع الدولي وقرارات الأمم المتحدة والمواقف الأوروبيّة، عجزت عن إخراج تركيا من شمال قبرص، منذ 1974 وحتّى اللحظة، فهل توجد ضمانات ألاّ تكرر تركيا سيناريو شمال قبرص في شمال سوريا؟
أبعد من ذلك، لا يوجد ضمانات ألاّ يتكرر سيناريو منطقة الاسكندرون السوريّة، التي ضمّتها تركيا إلى حدودها سنة 1939، وصادق رئيس النظام السوري السابق حافظ الأسد على ذلك الضمّ، واعتبر تلك المنطقة جزء من الأراضي التركيّة في اتفاقية أضنة التي وقّعها مع الأتراك في أكتوبر 1998.
وبالتالي، تركيا كانت دولة احتلال لجزء من الأراضي السوريّة منذ 1939، وجددت احتلالها سنة 2018، باحتلال عفرين، ثم وسّعت هذا الاحتلال بغزو شرق الفرات، شمال سوريا.
وشأن تركيا في هذا السلوك، شأن الاحتلال الروسي والإيراني والاسرائيلي للأراضي السوريّة. وبل تركيا تحتل أضعاف ما تحتله إسرائيل (الجولان) من الأراضي السوريّة.
المزيد: هل تبدّد حلم الأكراد بالحكم الذاتي بعد دعوتهم النظام السوري للتدخل؟
مشاهد قطع الرؤوس وقتل المدنيين الكرد بنيران الجيش التركي والميليشيات الإسلاميّة السوريّة المتطرّفة الموالية لتركيا، ونزوح عشرات الآلاف من قراهم ومدنهم، كل ذلك، لم يدفع الغرب نحو التحرّك العاجل لمنع تفاقم الكارثة الإنسانيّة اللاحقة بكرد سوريا! بل كافأ الغرب تركيا بمنحها مساحات كبيرة من الأراضي السوريّة، باسم المنطقة العازلة أو الآمنة!
والأكثر غرابة من ذلك، إعلان بعض الدول الغربيّة ومنها ألمانيا، وقف تزويد تركيا بالأسلحة، لكنها لا تتدخّل لمنع هذه الحرب القذرة التي تشنّها الحكومة التركيّة على الكرد، بأسلحة ألمانيّة وأمريكيّة وأوروبيّة، وكأنّ تجميد بيع السلاح لتركيا، سيجبر أردوغان على وقف الحرب فوراً!؟
مسؤولية القادة الأكراد
الجانب الكردي أيضاً، الموالي والمعارض لـحزب العمال الكردستاني يتحمّلان جانباً كبيراً من المسؤوليّة. حزب العمال الكردستاني (PKK) ورديفه السوري؛ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) انفردا بالقرار، ومارسا خلال سيطرتهما على المنطقة، مستفيدين من الثورة على نظام الأسد، سلوكاً وسياسات استبداديّة وعسكريتاريّة ضد المختلفين معه.
والمجلس الوطني الكردي، بقي ضمن "الائتلاف السوري" الذي يدعم احتلال الجيش التركي لشمال سوريا. زد على ذلك، نقل ـحزب العمال الكردستاني ساحة صراعه مع تركيا إلى داخل الأراضي السوريّة، وهذا ما كانت تريده أنقرة. ذلك أن الأخيرة تقاتل بجماعات مرتزقة إسلاميّة سوريّة، وهؤلاء في الخطوط الأماميّة للحرب، وإذا قتل جندي تركي، يُقتل من تلك الميليشيات العشرات!
رهانات حزب لحزب العمال الكردستاني على نظام السوري تارةً، وعلى الروس تارةً أخرى، وعلى الأمريكيين تارةً ثالثة، كلها كانت خاسرة، ودفع ثمنها الكرد السوريون غاليّاً. كذلك الدوغما الحزبيّة والمصالح الضيّقة لدىـحزب العمال الكردستاني وسياساته الاستعراضيّة والاستفزازيّة في يما يتعلّق بالولاء لـه أيضاً، قدّم المزيد من المبررات للجانب التركي، وأظهر أنقرة أمام الناتو والغرب بمظهر الضحيّة المعتدى على أمنه واستقراره!
[embed:render:embedded:node:37919]
المشكلة الكرديّة مشكلة أوروبيّة غربيّة في الأساس
الحقّ أن المشكلة الكرديّة، في الأساس، هي مشكلة أوروبيّة غربيّة. فأثناء التوقيع على اتفاقيّة "سايكس-بيكو" سنة 1916، والتي بناء على تقسيماتها تشكّلت أغلب بلدان الشرق الأوسط، تمّ توزيع الجغرافيا الطبيعيّة والبشريّة الكرديّة على أربع دول؛ تركيا، سوريا، العراق وإيران.
وأمام أنظار وصمت فرنسا وبريطانيا العظمى وبقية دول الغرب، أبادت تركيا العثمانيّة أكثر من 1،5 مليون أرمني، وهجّرت مئات الألوف منهم. حاول الغرب تدارك الأمر، عبر إجبار المتبقي من السلطنة على التوقيع على اتفاقية "سيفر - Sèvres" سنة 1920، وبموجبها كان يفترض ان تمنح المناطق الأرمنيّة والكرديّة في تركيا الاستقلال الذاتي.
لكن مع إطاحة مصطفى كمال أتاتورك بالسلطنة نهائيّاً، وإعلان تأسيس الجمهوريّة التركيّة وأنه سيمنح الشعوب والأقليّات القوميّة حقوقها، وسيبني جمهوريّة علمانيّة على الطراز الفرنسي، بكل تلك الوعود والأكاذيب، نجح في إبطال معاهدة "سيفر" واستبدالها باتفاقيّة "لوزان" سنة 1923.
وعليه، اختتمت السلطنة العثمانيّة حكمها بمذابح بحق الأرمن والأكراد والسريان واليونانيين، وافتتح أتاتورك عهد الجمهوريّة التركيّة بمذابح بحق الكرد، عبر سحق الانتفاضات الكرديّة الواحدة تلو الأخرى. وحاول أتاتورك ضرب الضحايا بعضهم ببعض؛ إذ قصفت ابنته بالتبنّي؛ صبيحة غوكتشان (Sabiha Gökçen) مدينة ديرسم الكرديّة العلويّة بالقنابل سنة 1938.
وللعلم؛ غوكتشان؛ أرمنيّة الأصل، أخذها أتاتورك من ملجأ الأيتام، وتبّناها، إلى أن أصبحت أول قائدة طائرة حربيّة في تركيا، بحسب الكاتب الأرمني هرانت دينك الذي قتله المتطرفون الاتراك سنة 2007! لذا، يمكنني القول: وعلى ما يبدو استمّد هتلر الجرأة في ارتكاب الهولوكست من صمت العالم على المذابح التي ارتكبتها تركيا العثمانيّة وتركيا الاتاتوركيّة بحق الأرمن والكرد والسريان.
قبل جلاء الانتداب الفرنسي (1920-1946) عن سوريا بسبع سنوات، دخلت تركيا الأتاتوركيّة على خطّ المسألة السوريّة. فبعد احتلال فرنسا سوريا، وعلى خلفيّة قرار التقسيم الفرنسي، تمّ اعتبار منطقة الأسكندرون دولة مستقلة. ثم أعيدت إلى الدولة السورية عام 1926.
وسنة 1938، منحت فرنسا حكماً ذاتياً للاسكندرون، في إطار الدولة السورية. وسنة 1939 انسحبت فرنسا نهائيّاً من الاسكندرون، ووافقت على دخول الجيش التركي إليها، وضمّها إلى الأراضي التركيّة، وتغيير اسم الاسكندرون إلى "هاتاي". وهذه كانت المكافأة الثانيّة التي منحتها أوروبا إلى تركيا بعد ارتكابها مذابح الأرمن (1915-1917)، ومذابح بحق الكرد عقب سحق انتفاضة الشيخ سعيد بيران سنة 1925، وانتفاضة الجنرال إحسان نوري باشا سنة 1930 في جبل آغري، وانتفاضة الكرد العلويين في منطقة ديرسم سنة 1938.
مقصد القول: ما فعلته فرنسا سنة 1939، فعلته أمريكا سنة 2019 في المناطق الكرديّة السوريّة.
حتى الآن، يبدو أن الرئيس التركي أردوغان نجح في تحقيق أهدافه. وأبرزها إضافة المزيد من الأراضي السوريّة إلى المساحة التي يحتلّها في سوريا، وشراء صمت الغرب، عبر التهديد بورقة فتح الأبواب أمام اللاجئين.
وإذا استتبّت الأوضاع لأردوغان في شمال سوريا، كما استتبّت له في شمال قبرص، فإنه يستحيل إعادة الجيش التركي إلى ما وراء الحدود، من حيث أتى. ولا توجد ضمانات دوليّة على عدم محاولة إعادة تدوير وإنتاج "داعش" مجدداً، فضلاً عن مخاوف ارتكاب عمليات تطهير عرقي شرق الفرات.
بالنتيجة؛ يبدو أن "العيران" التركي، ما زال له سحرهُ ووزنه الذي يغلب الدم الكردي، في ميزان المصالح الغربيّة والأوروبيّة مع تركيا!
هوشنك أوسي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
هوشنك أوسي، شاعر وكاتب وصحافي كردي سوري.
اقرأ/ي أيضًا | مقالات تحليلية من موقع قنطرة
نهاية مشروع الحكم الذاتي الكردي..."لا أصدقاء للأكراد إلا الجبال والريح"
تركيا في شرق الفرات: نبع للسلام أم بؤرة جديدة لصراعات مستقبلية؟
مشروع "الإدارة الذاتية" شرقي الفرات... تراجع أم بداية انهيار؟
استياء غالبية الأتراك من الانتقادات الغربية لعملية "نبع السلام" في شمال سوريا