المرأة الليبية بين الجغرافيا والتاريخ
صدرت رواية بعنوان "الرسام الإنجليزي: حكاية جدارية البراديا وطبرق" للكاتبة والشاعرة والرسامة الليبية رزان نعيم مغربي عن دار النشر "منشورات ضفاف" في لبنان.
تدور أحداث الرواية في 354 صفحة، مقسمة إلى تسعة فصول تحمل عناوين تدور جميعها حول الفن والصداقة والحب في لبيبا ومجتمعات غربية. في هذا المقال نقدم قراءة في رواية "الرسام الإنجليزي" التي تمزج فيها الكاتبة ببراعة الفن والصداقة والحب، مع رسم صورة للجغرافيا والطبيعة الاجتماعية والثقافية في ليبيا والعلاقة بالاستعمار الإيطالي وما تلاه من تحولات اجتماعية وسياسية حتى عام 2011.
تدور أحداث السرد في رواية "الرسام الإنجليزي" في طبقات اجتماعية متنوعة ومناطق جغرافية مختلفة، متشابكة في قصة متراصة من الحكايات المتداخلة. وفي قلب هذا السرد، تنبض حكاية "جدارية البراديا"، التي رسمها الفنان الإنجليزي جون بريل بأنامله الراقية. يتوسط المبنى الذي يحتضن هذه الجدارية قمة منحدر يطل على خليج الباردي في ليبيا، وقد تم رسمها خلال فترة الحرب العالمية الثانية، قبل أن يتوفى الرسام الإنجليزي في سن العشرين.
تعكس هذه الجدارية مجموعة من الصور المتنوعة، تتراوح بين أهوال الحرب التي تتجلى في صور الجماجم المرعبة، وذكريات الوطن، وتتجلى فيها أيضًا روح النبيذ وجمال النساء وسحر الأغاني والأدب. من هذا اللوحة وما تحتويه تنطلق الكاتبة لتصوّر لنا المحطات السياسية والاجتماعية التي شهدتها ليبيا خلال فترة الاستعمار الإيطالي (1911-1943)، وتداعيات الحرب العالمية الثانية التي اندلعت على أرضها. تأخذنا الكاتبة في رحلة إلى الإدارة العسكرية البريطانية، حيث تتقاطع مسارات الرسام الإنجليزي مع الصديقات الثلاث "خيرية وحبارة وسدينة، اللواتي لم يجمعهن الدين أو العائلة، بل جمعهن التعاون لمواجهة الجوع والفقر والحرمان في بيئة صحراوية قاحلة. إنها بيئة يتم فيها استدراج الأزواج والأخوة الذكور للمشاركة في الحروب في بلاد بعيدة يحاربون فيها لصالح أعداءهم، أو يتم اختطافهم ولا يعودون كما شخصية "المبروك" أخو الجدة "سدينة".
تصور الرواية بطريقة تراجيدية أن من تمكنوا من النجاة في هذه الظروف القاسية فعليهم أن يعيشوا معاقين مهمشين صالحين لأعمال وخدمات بسيطة، مثل شخصية "حسن الأعرج" الذي أطلق عليه صديقه الصومالي الرصاص لإنقاذه من مصيره القتل المحتوم في حال أرسله المحتل الإيطالي إلى إريتريا للمشاركة في قمع المقاومة ضد الاحتلال الايطالي. أو يتم استغلالهم لصالح المحتل، تمامًا كما حدث مع الطفل المنصوري، اليتيم الفقير الذي أصبح جزءًا من "أطفال" رجال الاحتلال، وبعدهم الحكومة بعد استعادة البلاد لاستقلالها في عام 1951. تصور الرواية كيف أن العلاقات المتشابكة التي تعمل على تحقيق أهداف ومصالح شخصية في ليببا ما بعد الاستعمار، تجعل من المستحيل تحقيق العدالة للأفراد والمواطنين في هذا المجتمع القبلي. وفي هذا السياق تظهر شخصية "حامد" ليحل محل والده" المنصوري" في مقام السلطة، ويستمر في الاحتفاظ بسلطته ومكانته حتى الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها البلاد بعد عام 2011.
من خلال علاقة الصداقة المتوترة بين "سلمى"، ابنة حامد، وزينب، ابنة أحد حراسه، تتجلى في الرواية واقعية المجتمع الذي يعاني من الفساد والمحسوبية والطبقية. ومن خلال تسليط الضوء على الأخلاق والمسؤولية الفردية تدعونا الرواية للتفكير في دورنا كأفراد في تغيير الواقع الذي يحكمه شبكة من الفاعلين الذين يتلونون مع كل نظام حاكم وفقًا لمصالحهم الشخصية. ومع ذلك، لا يفوت الكاتبة أن ترصد الأثر النفسي الذي يتركه تجذر الفساد والاستبداد على شخصية الأفراد، حتى من يرون أنفسهم فاعلين وبيدهم السلطة. يقول الرواي واصفًا "حامد " على لسان ابنته "سلمى": "... سيرة والده المنصوري دفعته ليصبح ضابطًا في الجيش، وقد منحته حياة العسكريَّة التحرُّر من الخوف، وكثيرًا من الوجاهة، وبعد سنواتٍ اكتشف أنَّه وقع في الأسر، ولكن بطريقةٍ مختلفةٍ عمَّا حصل لأبيه وهو طفلٌ في المعتقل... ينهض متمهِّلًا من وراء مكتبه، يفتح خزانةً صغيرةً تبدو سرِّيَّةً، تختفي وراء مجموعة مجلَّداتٍ من الكتب، يخرج زجاجة نبيذٍ أحمرَ، ويسكب كأسًا منه، فيما اعتادت سلمى أن تراه يشرب دون ثملٍ، وهذا سرُّها الذي لا يمكن أن تتحدَّث عنه أمام أحدٍ، في مجتمعٍ صغيرٍ مغلقٍ، على اعتبار الخمر من المحرَّمات في القانون قبل الدين...".
المرأة والرجل والمستعمر في الرواية
تفردت الرواية بعناية فائقة بتسليط الضوء على حضور المرأة وتشابكه مع الوضع الاجتماعي والثقافي في ليبيا على مدى ثلاثة أجيال متتالية، لترسم صور متعددة ترد على الخطاب الاستشراقي والصورة النمطية للمرأة العربية من خلال سرد رحلة الجدات الشجاعات "سدينة، حبارة، وناخوم"، اللواتي عشن في زمن الحرب العالمية الثانية والاحتلال الإيطالي فتعلمن الحرف ليساعدن الأمهات ويحتضن الأخوات.ثم يتبع السرد تطور المجتمع الليبي وتغيراته الثقافية والاجتماعية من خلال شخصية الأم "مباركة"، التي ترصد ظهور الحركات المتشددة في تسعينيات القرن الماضي ومن ثم شخصية سلمى التي تجسد قصة المرأة الليبية في واقعنا الحاضر.
من خلال تتبع السرد لهذه الأجيال الثلاثة، تبرز الكاتبة قوة المرأة الليبية وصمودها فترفض الهزيمة وتدافع عن أخيها ووالدها، وتسعى لتحقيق نجاحها الشخصي، بغض النظر عن الأهداف المختلفة التي تسعى إليها. تصور الرواية الجدة "سدينة" التي تخلت عن وطنها لترافق حفيدتها في دراستها في إيطاليا بأسلوب من السخرية السوداء وبكلمات جياشة ترسم ضياع مشروع دولة ما بعد الاستعمار وبناء الدولة الحديثة في لييبا . فهنا في بلد العلم والفن والهجرة تخرج الجدة لتبحث عن شاب يشبه أخيها الذي اختطفه المحتل الإيطالي وهي في سن السابعة. أما الأم "مباركة" فترفض الشعور بالإهانة من زوجها "الضابط"، الذي قد يكون لديه زوجة أو عشيقة أخرى بسبب عدم قدرتها على إنجاب طفل ثانٍ بعد ابنتها سلمى.
تصر "مباركة" على ترك المدينة ومواصلة تعليمها الجامعي، حتى لو تزوجت شخصًا تعتبره العائلة متشددًا إسلامياً. أما سلمى، الشابة المتعلمة، فتجسد رمزًا للفتاة الليبية المهاجرة والتي تحررت من قيود أبيها وثقافتها المحافظة حتى وإن ظلت تلك الثقافة ساكنة جزءا من تصرفاتها ونفسيتها.
سافرت سلمى للدراسة في إيطاليا بعد خلاف مع والدها، مما دفعها للتخلي عن كل رفاهياته والتضحية بكل شيء من أجل تحقيق حلمها في الحصول على شهادة الدكتوراة في الهندسة المعمارية وكذلك أوراق الإقامة في إيطاليا.
ومن خلال شخصية "سلمى " تستعرض الرواية بصدق وشفافية واقع الشاب العربي المعاصر وعلاقته بموطنه الأصلي والمحتل السابق، حيث لا تنجذب سلمى إلى شعارات الوطن والحنين، على الرغم من التعب الذي تكبده في الغربة. بدلاً من ذلك، تختار البقاء في إيطاليا، حتى وإن كانت ستعمل في وظيفة إدارية بعد حصولها على درجة الدكتوراة، حتى عندما تفاجأت بحبيبها "خالد" الذي يأتيها معلنا حنينه لها بعد عشر سنوات. فتستعرض الكاتبة هنا مشاعر المرأة التي تجاوزت محنة الغربة وتحدتها بقوتها الذاتية، مما جعلها تتشكل كشخصية واقعية تتمتع بمعايير ومشاعر واقعية عقلانية، على الرغم من صعوبة هذه المشاعر: تفكر سلمى"ورنت كلمته (ارتاحي سلمى)، سمعتها مثل لحن قديم أطربني، بل هزني بقوة، نزلت دمعة دون إرادة، ارتاحي... ياااااااااه! كم مضى عليَّ دون أن أسمعها من أحد! ارتاحي، ما ينقصني هو أن يفعل أحد ما شيئًا بالنيابة عني، ويشير بحنان أن عليَّ أن أرتاح! طوال عشر سنوات سمعت: اشتغلي، اجتهدي، عليك أن تفعلي كذا وكذا، انطلقي، كل أفعال الحركة التي تتطلب بذل الجهد تبرمجت على سماعها، ارتاحي سلمى! أفتقد الراحة بكل أشكالها، لماذا يا خالد أتيت الآن؟! لأبصر رغباتي التي افتقدتها؟!". لكن سلمى سرعان ما ستطرد موجهة كلامها لخالد "تظن أنني ما زلت سلمى التي تهز رأسها بالموافقة لأبيها وجدتها ولك، والكسول التي لا تتحمل مسؤولية، اختبرتني الحياة في الغربة ومررت بأوقات صعبة وتجاوزتها... قاطع رنين هاتفه كلامي، أشار بأن هناك نداءً للعودة إلى المشفى، رجع بمفرده".
وهنا ومن من جهة أخرى، يتجلى تجسيد الرجل بكل تنوع طبقاته الاجتماعية والجغرافية والتاريخية في الرواية بأسلوب يثير الاهتمام والدهشة. فالرجل يظهر كالبطل المنهزم، كما يتجلى ذلك في رسام إنجليزي يفنى في أوج شبابه بعد فشله في أول علاقة عاطفية مع الممرضة آن ماري، ويتجسد أيضًا في حسن الأعرج الذي تعتبر عجزه الجسدي مفتاح نجاته، وفي الضابط ذو السلطة والجاه الذي يهرب للشرب ويفشل في زواجه الأول ويخسر ابنته. ولا ننسى خالد من الجيل الثالث الذي يفشل في الفوز بحبيبته وفشله في زواجه الأول ويظل موظفا بسيطًا تعلوه رتبة زميلتهم" الشابة الفقيرة "، زينب، التي نجحت في تحقيق حلمها لتتخرج من كلية الضابطات وتعمل في المطار وتتزوج من رجل ثري يساعدها في نيل الاحترام في مجتمع طبقي. أما جورجيو الشاب الإيطالي الوسيم فينسحب فجأة من حياة سلمى بعد أن يتوهم أن هناك من يراقب حركاتها في إيطاليا نيابة عن والدها في ليبيا.
الفن والتاريخ بين المستعمر والمستعمر
تعد رواية "الرسام الإنجليزي" عملاً بحثياً كبيرًا، حيث نجحت الكاتبة في أن تأخذ القارئ في رحلة استكشافية لا تقتصر على عالم الفن والموسيقى والأدب الحديث والكلاسيكي، بل تمتد إلى تاريخ وثقافة الجغرافية في الصحراء الليبية الغنية بتراثها الثقافي والجغرافي. فهذا التراث يتجلى في الرسوم المحفورة في كهوفها وصخورها، التي تطبع آثارها على أهل البلد وتعلمهم أسرارها. فنرى سخاء الليبي الذي يساعد الغرباء الذين جاءوا لمساعدته ضد المحتل الإيطالي، مثل الرسام الإنجليزي والجندي الأسترالي. ومع ذلك كانت هذه الكهوف والصخور حاجزًا يردع أعداءهم وتمثل لهم وسيلة للمقاومة لتؤكد أن هذه البلد لأهلها فقط، حتى إن احتضنت تلك التضاريس الأساطير والميثولوجيا التي ترتبط بتاريخ وثقافة محتل سابق ولكنها اليوم قد أصبحت جزءًا من وجدان وثقافة الليبيين، مثل نهر "الليثيو" أو "النسيان" في بنغازي.
تستحضر الكاتبة كل هذه العناصر ببراعة وتوظفها لخدمة الموضوع الأساسي للسرد. ففي إيطاليا، تستدعي الكاتبة نهر "الليثو" في ليبيا، حين ترى نافورة "فونتانا دي تريفي"، والتي يتوافد إليها " الناس" لرمي قطعة نقودٍ لعلَّها تجلب لهم الحظَّ الجيِّد وتحقِّق الأمنيات". أما في بنغازي، فتأتي إلى النهر النسوة" بغية غسل جراحهم من حبٍّ مؤلمٍ، ولمسح ذاكرتهم والبدء من جديدٍ، وهنا نافورة تريفي، يؤمُّها الزوَّار ليصنعوا ذاكرةً للحبِّ وللآمال".
لكن الرواية تستفز القارئ عندما يتحول نسيان التاريخ والماضي -ذلك النسيان الفردي والاختياري- إلى محو للذاكرة الجمعية والتاريخ بالإجبار عندما يقوم المسؤولون "الوطنيون" بإزالة المنشآت القديمة والتاريخية التي بناها محتلون سابقون بدعوى "التطوير"، كما يصور حكيم حال قريته "البردي" فيقول واصفا الحال المزري لإحدى القرى الصغيرة المهمشة رغم جمال تضاريسها ومعالمها النادرة - يقول الراوي على لسان الشاب حكيم: "وفي وقت اهتم بها الغرباء الذين أتونا من بعيد، عثمانيين وإيطاليين وإنكليزًا، ترك كل منهم أثرًا فيها، أتى يوم وخطر لأحد المسؤولين الليبيين وعمل فيها الكاشيك الأصفر (جرافات) هدمًا وتدميرًا، وكأنه ينتقم من نفسه وليس من الآخر الذي رحل".
تعيدنا الرواية بذلك للاهتمام بدور المباني الأثرية والفن في تاريخ حضارات الشعوب وترسيخ روح الجمال في الغرب، كما في إيطاليا، فالمعمار يعتبر من أهم الفنون التي تؤثر بشكل كبير في صناعة وعي جمعي في المجتمعات ويعتبر أداة قوية لتشكيل الهوية الثقافية والاجتماعية للمجتمعات، وتعزيز الانتماء والتفاعل الاجتماعي، ومن جهة أخرى يعتبر خطابا مرئيا يعكس قيم وتقاليد المجتمع وهويتة الثقافية. ومع ذلك لا يفوت الكاتبة أن تذكِّر القارئ بأن هذه الحضارة المفتونة بالجمال والأناقة لها وجه فاشي وماضٍ مقيت. فإن نفرح بتماثيل رخامية إيطالية أطلقوا عليها "نبع الحياة" فإننا لا ننسى الوجه الآخر الذي اغتال ونفى وقتل ". وتتساءل الرواية هنا: هل يمكن الفصل بين الحرب والفن؟ هل ذاكرتنا قصيرة الأمد أم المعمار الذي نراه من حولنا يصنع وعيا وذاكرة جمعيه أقوى تأثيرا وحضورًا؟ ربما تجيب سلمى على هذا السؤال حين تسجل لحظة وصولها إلى روما قائلة: هذا بلد الفنون، كان على أحدٍ أن يشهد فرحي، وأنا أكاد أطير لرؤية تلك الجداريَّات الفنِّيَّة تحتلُّ مبنى الوصول، كلُّ شيءٍ هنا يشير إليك بأنَّك وصلت إلى بلاد الرومان، ما تحقَّق لي في تلك اللَّحظة مسح من ذاكرتي حكايات جدِّي المنصوريِّ ومعتقله، صارت صورًا باهتةً بالأبيض والأسود، تكاد تمحوها بهجة ما أشاهد في تلك اللَّحظة، نسيت أبي وأمِّي وخالدًا وزينب، نسيت مكابدتي في إقناع الجميع بالسَّفر، وموشَّحات التوسُّل وأنا أطلب من والدي المصاريف أو تدبير الحصول على منحة إيفادٍ بحكم منصبه ، وكدت أنسى جدَّتي، باختصارٍ كنت أخطو لاكتشاف عالمي الجديد، وكأنِّي وُلِدت للتَّوِّ وأنا الآن في روما!".
ولكن هل كان هناك حضارة تعتز بتاريخ نقي وثقافة نقية تشكلت من عنصر واحد عبر التاريخ؟
النقاء الموهوم والتفكك مقابل التعددية وقبول الآخر
من بين المسائل الرئيسية التي يثيرها العمل الأدبي هي مشكلة نقاء الثقافة وتأثيرها على الحوار والتلاقح وتنوع الثقافات. من خلال شخصية سلمى، تصور الرواية مشاعر خوف الجدة ورفضها للـ"غريب" المختلف" سواء كان على مستوى الطبقة الاجتماعية والثقافة الليبية المحلية حتى إن كانت تعيش الآن في إيطاليا. لم تكن الجدة تخشى على سلمى من الشاب الإيطالي، جوجرجيو، لذي وصفته سلمى بأنه "النسخة التي لا تتطابق مع مظهر(ها) العام، بل تكمن فيما تخفيه داخلـ(ها) ولا تجرؤ على الكشف عنه"، لكن كذلك كريم، الشاب اللبناني. فقد حاولت الجدة وضع عقبات في طريقهما من البداية، وختمت مخاوفها قائلة له "لم يحدث من قبل أن تزوجت فتاة من قبيلتنا بشاب أجنبي!".
تأخذ الرواية إشكالية المحافظة "الأصالة " والغريب من السياق الفردي إلى سياق أوسع يشمل الثقافة والمجتمع بصفة عامة لتجادل أنه في هذا السياق المنغلق تتشبث كل مدينة وكل قبيلة وكل طبقة اجتماعية برأيها ومقوماتها، ولا تسمح بالتفاوض أو المرور لأي شيء يختلف معها أو حتى رؤية تعددية تشمل صورة أوسع للمجتمع بتعدد طبقاته الاجتماعية ومواقعة الجغرافية. ربما يكون السرد بذلك تلميحا لهيمنة هذا الجو كأحد أهم الأسباب التي أدت إلى غياب مشروع موحد يمثل الثورة الليبية. تصور "الرسام الإنجليزي" البطلة سلمى في النهاية غير قادرة على الانحياز لدعم عودة ثورة لا تعرف من يمثلها وما هو مشروعها وتقرر البقاء في المهجر حيث التعددية والقانون والفن والجمال.
تفكر سلمى: "لقد اكتشفت أن لدينا تعدديةً في أنماط العيش في بلد فرض عليه نمط واحد محدد، حاكم أوحد مالك لكل السلطات، كتب تاريخ من غير مقارنة، ثقافة شفاهية، زيٌّ موحد، وطبق غير شهيٍّ على كل مائدة من مكونات محددة، ولكن كيف نعيش تلك التعددية؟ في السرية والخفاء متشددون ومنشطرون لفئات، كل فئة متمسكةٌ بزمن تقدسه، ولا تريد تجاوزه وترفض الحوار مع غيرها للاقتراب والتوحد، على من يفرض عليهم الشكل الواحد، لهذا كان من الصعب الاتفاق والتمرد والثورة عليه، أما السلطة فهي تنظر بعين الريبة والشك، ومن المقلق لهم وجود أثر مخالف ومختلف، والحل هو المحو والهدم، ولسان حالهم يقول: ليس بمقدورنا بناء بديل أفضل لكم، هذا ما لدينا وعليكم الإذعان، وما يذكرهم بالماضي لا بد من زواله حتى لو تميز بالبهاء والفرادة والعراقة، فهو يؤلم أصحاب الفكر الواحد، يعتقدون بهذه الطريقة، يكتبون التاريخ كما يشاؤون، حتى لو احتجز أجيالًا كاملة في الخواء".
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023