ليبيا: ماذا بعد الطوفان؟!
تحول إعصار دانيال، الذي ضرب مناطق الجبل الأخضر شرق ليبيا، إلى عاصفة هوجاء، مصحوبة بكميات أمطار بمعدل 400 ملم غير المسبوق في تاريخ ليبيا منذ أكثر من قرن على الأقل، بحيث أن كمية المياه التي هطلت متتابعة لقرابة 24 ساعة فاقت ما يتساقط عادة من أمطار على كامل ليبيا في العام.
لم تخلف العاصفة وأمطارها خسائر كارثية في الأرواح والممتلكات في مناطق الجبل الأخضر عدا درنة، وذلك بسبب انهيار سدّي واديها الذي يشق قلب المدينة إلى نصفين شرقاً وغرباً، حيث اندفعت مياه تسونامي السيول، فائضة على ضفتي الوادي، بأمواج هائلة وصلتْ إلى مستوى الطابق الرابع بحسب شهادات ناجين، مُدمِّرةً 4 جسور رئيسة تربط أحياء المدينة على ضفتي الوادي، دافعةً بالحجارة والصخور والطمي، مدمِّرةً كل ما يعترض طريقها، جارفةً -إلى داخل البحر بامتداد أكثر من ثلاثة كيلومترات- المنازل والعمارات بقاطنيها المحتمين بها في انتظار انقضاء العاصفة وتوقف الأمطار، والسيارات بركابها وهم يحاولون الفرار عندما داهمهم الفيضان الهائل بُعيد سماع دوي انفجار السدّين تتالياً.
مُحِيَتْ أحياء بأكملها من البسيطة ضمن مساحة ثمانية كيلومترات مربعة. أُبيدَت عائلات بكامل أفرادها، وفاق أعداد القتلى أكثر من عشرة آلاف، وما يفوقهم بكثير من المفقودين. كان مشهدا من مشاهد أهوال يوم الدينونة.
هل إهمال صيانة السدَّين كان حقاً وراء انهيارهما ووقوع الكارثة؟
قيل الكثير، على ألسنة محللين وسياسيين ونشطاء فيسبوكيين، حول تحميل أسباب انهيار السدّين، للفوضى السائدة في ليبيا ما بعد "ثورة" 17 فبراير 2011، وما تبعها من انقسام سياسي حاد بين سلطتين، واحدة في الغرب والأخرى في الشرق، محمولاَ على صراع مسلح بينها، الأمر الذي ترتب عليه إهمال صيانة وتطوير البنى التحتية الحيوية، ومنها سدّا وادي درنة، المشيّدان منذ عقود، دون أن يتم تنفيذ أي صيانة حقيقية فيهما، سواء في ظل نظام القذافي الذي أهمل الشرق متعمدا، ومنه درنة، بحسبانها واحدة من مدن الشرق المتمردة على نظامه، أو في عهود الحكومات المتعاقبة منذ العام 2011، رغم إدراج ميزانية مخصوصة لصيانتهما في الموازنة العامة بحسب ما جاء في تقرير ديوان المحاسبة. وهناك شكوك قوية بأن الأموال قد ذهبت أدراج الفساد.
كان هناك تحذيرات عديدة من مختصين، أبرزها ما جاء في دراسة علمية للمهندس الأكاديمي عبد الونيس عاشور، نُشِرت في نوفمبر / تشرين الثاني 2022 من احتمال وقوع "كارثة" تحل بمدينة درنة، إذا لم تقم السلطات بصيانة السدّين، وهما سد "أبو منصور" بسعة 22,5 مليون متر مكعب، وسد "البلد" بسعة 1,5 مليون متر مكعب من المياه. وهو قد بنى حسابات دراسته على أساس معدل سقوط الأمطار المعتاد على الجبل الأخضر، الذي يتراوح ما بين 200 إلى 550 ملم. ولم يكن في حسبانه اضطرابات المناخ المتطرفة إلى حدّ التهلكة الشمولية.
جهات متعددة، رسمية وشعبية، تطلب من النائب العام فتح تحقيق في أسباب الكارثة ومحاسبة كل الذين يشتبه في ارتكابهم "أخطاءً أو إهمالاً" أدى إلى انهيار السدين والتسبب في كارثة المرعبة، ومحاسبتهم أمام العدالة.
ولكن هل حقاً أن إهمال صيانة السدّين كان وراء انهيارهما وحدوث الكارثة؟ أَم أن السدّين كان مآلهما الانهيار حتى لو كانا مُشيّدين حديثاً جداً؟ فالمنطق الهندسي العلمي، يقول إن السدّ العلوي (سدّ بو منصور/ يبعد حوالي 13 كلم عن السدّ السفلي (سدّ البلد) الذي يبعد حوالي كيلومتر واحد من قلب المدينة. وبينما تبلغ السعة التخزينية لسدّ بومنصور 22.5 مليون متر مكعب من المياه، فإن سعة تخزين سدّ البلد تبلغ 1.5 مليون متر مكعب.
لكن مياه أمطار عاصفة دانيال التي تدفقت من السماء ومن المرتفعات الجبلية وصبت مجاريها في وادي سدّ بومنصور بامتداد 13 كيلومتر، قُدرت بحوالي مائة مليون متر مكعب، بحيث تجاوزت علو السدّ، فانهار بطبيعة الحال آخذا معه السدّ السفلي. والنتيجة تسونامي سيول لا يُصد ولا يُرد.
هل كان من الممكن تلافي حجم الخسائر المهول في الأرواح؟
المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتّحدة قالت إنه "كان من الممكن تفادي سقوط معظم الضحايا" في حالة كانت لدى ليبيا وكالة أرصاد جوية محترفة، تعمل بأنظمة التحذير المبكّر وإدارة الطوارئ كما يجب. لكن، أيضاً، السكان حول الوادي لم يستجيبوا لنداءات المجلس البلدي المبكرة بإخلاء مناطقهم الخطرة. تشبثوا ببيوتهم على أساس أنها عاصفة مطرية سوف تنقضي في اليوم التالي. ثم أن المجلس البلدي ما لبث أن تخلى عن مطلب الإخلاء وطالب الناس بالبقاء في بيوتهم، بل وفرض حظر التجول مساء السبت تحسباً للعاصفة.
والحال أن ما حدث كان أقسى كارثة إنسانية في تاريخ الليبيين منذ أن عرفوا أنفسهم كشعب واحد. ودللوا على ذلك بتضامن شعبي، أيضاً لا مثيل له في تاريخهم الحديث أو المعاصر. قوافل إغاثة تحت عنوان "فزعة خوت" أي فزعة إخوة، لا ينقطع تتابعها، من الغرب على بعد أكثر من ألف كيلومتر ومن الجنوب على بعد حوالي ألفين كيلومتر. أسقطوا حواجز الانقسام السياسي ومشاريع التقسيم الجغرافي، على ما جاء في عديد التعليقات والتعبيرات الشعبية الجامعة، برسم "عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم".
ولكن، بعد إزاحة العواطف الأخوية الوطنية الجياشة، هل يمكن تصور أن الطبقة السياسية الليبية المنقسمة بين الشرق والغرب والمتقاتلة أحيانا بأدواتهما العسكرية، سوف تدرك أن ليبيا ما قبل تسونامي درنة ليست كما هي بعدها؟!
أي هل سينجم عن هذه النكبة المأساوية توافق وطني (سياسي) يؤدي إلى تشكيل حكومة وطنية شاملة تنفذ خارطة طريق إلى سلطة سياسية موحدة (عبر الانتخابات) ومؤسسة عسكرية موحدة خاضعة للسلطة السياسية، وبالتالي عودة ليبيا دولة موحدة؟ أم أنه، مع تناقص الاهتمام الإعلامي المشهدي بالكارثة المأساوية وفتور همم "فزعة الخوت" الشعبية، سوف يعود الناس (الأحياء) في درنة وبقية ليبيا إلى مشاغلهم المعتادة. وإن كان من المؤكد أن أهوال الذي جرى بدرنة وأهلها لن يمحي من ذاكرة المدينة وأهلها لأزمنة مديدة قادمة. وغالباً سوف تدمغ ذاكرة الليبيين تسمية "وادي درنة" بتسمية طوفانية أسطورية حيّة.
هل يمكن أن ينتظر الليبيون من طوفان درنة حمامة سلام تحمل بمنقارها غصن زيتون؟! أي أن أي ينجم عن الكارثة المأساوية توافق وطني سياسي، يؤدي إلى تشكيل حكومة وطنية شاملة، تنفذ خارطة طريق إلى سلطة سياسية موحدة (عبر الانتخابات) ومؤسسة عسكرية موحدة خاضعة للسلطة السياسية، وبالتالي عودة ليبيا دولة موحدة؟!
أم أن حليمة ستعود لحالتها القديمة؟!
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023