وسائل الإعلام المصرية...ماكينات للدعاية السياسية
السيد شكر الله، يتعرض الصحافيون الأجانب إلى الملاحقة والإهانة على يد السلطات الأمنية. أما وسائل الإعلام الحكومية فهي تتحدث كلها بصوت واحد، وتتبارى في المدائح التي لا تنتهي في وصف بطولات الجيش. لا بد أن كل هذا يدفع بأي صحافي جيد إلى حافة الجنون.
هاني شكر الله: لم أعد أنام منذ نحو شهر. إنني أنظر إلى كل ما فعلته طوال حياتي، وأقول لنفسي: لقد ضاع كل شيء هباءً. منذ سقوط مرسي لم يعد هناك مؤسسات إعلامية تستحق الاحترام في مصر. كلها أبواق للبروباغندا. هذه كارثة.
الإذاعة تبث مارشات عسكرية، والصحف تطبع على الصفحات الأولى صور الإسلاميين والقيود في أياديهم، أما في التلفزيون فإن المشاهد يرى شعار "مصر تحارب الإرهاب" ...
هاني شكر الله: كل هذه مخدرات للشعب، وعبرها يُخضع الجيش الناس له. لم تعرض وسائل الإعلام علينا أبداً الذين كانوا يشاركون في اعتصامات أنصار محمد مرسي، وهم، بكل تأكيد، لم يكونوا كلهم أشخاصاً مجانين محرضين على الكراهية. وبدلاً من عرض رأي هؤلاء لم نعد نسمع سوى تعليقات ترغي وتزبد حول الإرهاب الإسلامي. من الواضح أن كل الأطراف فشلت. لقد أخفقت وسائل الإعلام الغربية والمصرية في الإلمام بالوضع بكافة تعقيداته. إنها تنشر تقارير وكأنه ليس هناك سوى الأبيض أو الأسود، وبذلك تساهم مساهمة ضخمة في الاستقطاب المتفشي في البلاد.
كثير من المصريين يتهمون الصحافيين الغربيين بأنهم منحازون إلى الإخوان المسلمين.
هاني شكر الله: ما زالت الأحكام المسبقة تغلب على النظرة التي ينظر بها الغرب إلى العالم العربي. منذ الثورة الإسلامية في إيران والعديد من المثقفين يعتبرون المسلمين شواذاً عن العاديين من الناس. إنهم يقولون: المسلمون يرفضون الديمقراطية واقتصاد السوق الحر؛ ولهذا، هذه هي قناعتهم، فإن العرب لا يصلح لهم سوى نظامين: إما دولة بوليسية علمانية أو ديمقراطية ذات صبغة إسلامية. لقد استغل الحكام المستبدون مثل مبارك وبن علي هذه الورقة أبشع استغلال، مقدمين أنفسهم باعتبارهم السد المنيع لمواجهة التيار الإسلاموي الراديكالي. كما استغل الإخوان المسلمون أيضاً خوف الغرب من الإرهاب.
كيف؟
هاني شكر الله: بعد الربيع العربي كان الغرب يريد أن يعترف، وبكل ترحاب، بالإخوان المسلمين كممثلين للحركة الإسلامية المعتدلة. لقد استخدم مرسي خطاباً بلاغياً ذكياً لكي يقول للغرب: إننا نشاطركم قيمكم. وعندما قام بالوساطة بين كافة الأطراف خلال أزمة غزة 2012 احتفوا به كأنه المخلّص. كان لدى الغرب أمل في أنه يستطيع مع الإخوان المسلمين المعتدلين السيطرة على المتطرفين. وهكذا غضوا البصر عن انتهاك مرسي كافة القيم الديمقراطية.
ألهذا ينبغي على الغرب الآن أن يتغاضى عن تصرفات الجيش القاسية؟ لقد مات مئات من أنصار مرسي لدى فض الاعتصامات الاحتجاجية.
هاني شكر الله: النقد الموجه لأسلوب القيادة في الجيش صحيح بالطبع. ولكن المراسلين نسوا بعد الثلاثين من يونيو / حزيران (2013) بسرعة أن الملايين من المصريين خرجوا إلى الشوارع للتظاهر ضد الإسلاميين. إن المراسلين يكتبون وكأن حركة تمرد لم يكن لها وجود في يوم من الأيام.
كل قادة الإسلاميين تقريباً يقبعون الآن في السجون. هل تستطيع البلاد في ظل حملة الملاحقة هذه أن تنعم مرة أخرى بالهدوء الذي كان سائداً؟
هاني شكر الله: لا. إن تخوفات العديد من المراقبين من أن يدفع هذا التحريض الإسلاميين إلى العودة إلى جذورهم الإرهابية هي في محلها. الإخوان المسلمون يتمتعون بشعبية، وأنصارهم مستعدون لأن يموتوا دفاعاً عن معتقداتهم. أنا أكره إيديولوجية الإخوان المسلمين، ولكن لا بد من إشراكهم في العملية السياسية. القمع يؤدي إلى القمع. هذا ما شهده التاريخ المرة تلو الأخرى.
وسائل الإعلام المصري تحتفل بحملة الملاحقة هذه، وتمجد الجيش، وتشيطن الإسلاميين.
هاني شكر الله: إنهم يصورون العدو بشكل فظ، وهو الأمر الذي يذكرنا باللغة البصَرية التي استخدمتها وسائل الإعلام الأمريكية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر: الراية التي ترفرف في الخلفية، شعار "الحرب على الإرهاب" الذي يراه المشاهد على الشاشة في كل برنامج؛ كل هذا يؤدي في النهاية إلى قومية مبالغ فيها تماماً. عصابات مبارك تنشر الآن خطاباً هستيرياً بهدف إعادة كتابة الثورة.
ليس جديداً أن يتعامل الجيش بصرامة مع المنتقدين. عندما تولى الجيش الحكم بعد سقوط مبارك مورس الضغط على الصحافيين، كما لوحق الكثير من المدونين قضائياً.
هاني شكر الله: لم تكن وسائل الإعلام في مصر يوماً حرة، إذ ليس هدفها هو نشر المعلومات، بل حشد الجماهير. إنها ماكينات للدعاية السياسية.
وهل يرى الصحافيون أنفسهم أبواقاً للحكام؟
هاني شكر الله: إنهم يفهمون دورهم كخَدم لدى السلطة. هناك كثيرون في الصحف الكبرى مثل "الأهرام" أو "المصري اليوم" كانوا يحتلون في الماضي مناصب قيادية، ولكنهم أُبعدوا عن مناصبهم في ظل النظام الجديد. هؤلاء سيعينون الآن مرة أخرى رؤساء للتحرير. يحدث كثيراً أن يغير طاقم التحرير بأكلمه رايته السياسية بين عشية وضحاها. إنني أعرف عدداً لا يحصى من هؤلاء الصحافيين.
هل لديك مثال على ذلك؟
هاني شكر الله: أعرف زميلاً كان في عهد مبارك على علاقة وثيقة للغاية بالجهاز الأمني. وعندما بدأت الاحتجاجات في ميدان التحرير وصف المتظاهرين بأنهم وباء شيوعي، وأنهم من مدمني المخدرات والجنس، متحدثاً عن ضرورة مكافحتهم. بعد سقوط مبارك كتب مقالات عن الشباب العظيم، تحت عناوين مثل: "أيها المصريون، اُنظروا إلى هؤلاء المنتصرين". وعندما تولى الإخوان المسلمون السلطة، وقف هذا الزميل خلال مؤتمر التحرير وراح يتلو لنا آيات من الذكر الحكيم. معظم الصحافيين يتصرفون مثل هذا الصحافي.
لقد كنتَ محرراً في موقع قيادي في صحيفة شبه رسمية. كيف يستطيع المرء تحمل مثل "تأميم الرأي" هذا داخل وسائل الإعلام؟
هاني شكر الله: لا يمكن تحمل ذلك على الإطلاق. ولهذا تم فصلي مرتين من عملي هناك. أول مرة كانت في عام 2005 على يد مخابرات مبارك. كنت آنذاك رئيس تحرير "الأهرم ويكلي"، الطبعة الانكليزية الورقية، وكنت أصر دائماً على أن ننشر مقالات حول موضوعات مثل حقوق الإنسان والقمع، حتى إن لم تجد مثل هذه المقالات لها مكاناً على صفحات الجريدة الأم. وفي شهر فبراير/ شباط (2013) فصلني الإخوان المسلمون، وقاموا بتغيير هيئة التحرير تغييراً جذرياً.
ولكن الرأي العام لم يعترض على ذلك.
شكر الله: لا، وهذا أمر محبط. مصر ينقصها كل ما يمكن أن يجعل حرية التعبير عن الرأي ممكنة: التدريب والإمكانيات والعلم. أنا أقول لطلابي: اُخرجوا لكي تتفاجأوا، لا لكي تؤكدوا نظرياتكم المسبقة. لكنهم لا يفهمون ذلك في معظم الأحيان. ومن أين لهم أن يفهموا؟ مصر لا تعرف وسائل إعلام كتلك التي تعمل في ظل النظم الديمقراطية.
هل يفسر ذلك الرغبة في الرقابة الذاتية؟
هاني شكر الله: نعم. الأصوات المحذرة القليلة خافتة. في ظل حكم الإخوان المسلمين بدأت بعض المحطات الخاصة برامجاً مضادة، وحاول بعض المنتقدين، مثل الساخر باسم يوسف، أن يختبروا حدود ما يمكن قوله. أما الآن فإن السائد هو مناخ الكراهية المتطرفة. لقد اختفى باسم يوسف ومعه إعلاميون نقديون آخرون.
هل اختفوا عن الأنظار لأنهم يخشون إجراءات قمعية؟
هاني شكر الله: لا أحد يعرف. ربما استسلموا لأنهم لا يريدون العمل في ظل ديكتاتورية الرأي الواحد. ربما قام رؤساء التحرير بطردهم. ضغط الرأي العام هائل. عندما أهاجم على الفيسبوك السلطة المطلقة التي يتمتع بها جهاز الشرطة يهاجمني الناس في التعليقات ويتهمونني بأنني عضو في جماعة إرهابية. هذا أمر يبعث على الضحك. ليس كل شخص باستطاعته تحمل مثل هذا الضغط.
الرئيس المنتخب محمد مرسي يجلس الآن وراء القضبان، في حين أُطلق سراح الديكتاتور حسني مبارك. الجيش يحكم الآن بقضبة حديدية. هل تسير مصر على طريق الديمقراطية؟
هاني شكر الله: نعم. أمامنا أوقات صعبة، ولكنني أؤمن بالشباب الذين نجحوا في إزاحة رئيسين محتكرين للسلطة وحكم عسكري. لن يسمح الشباب لأحد بأن ينتزع الثورة من أياديهم. لديهم الإنترنت، وهو أفضل سلاح لديهم.
حاورته: أندريا باكهاوس
ترجمة: صفية مسعود
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013
ولد هاني شكر الله عام 1950 بالقاهرة، وهو باحث في العلوم السياسية وأحد أشهر الصحافيين في مصر. شغل شكر الله في الفترة من 2003 حتى 2005 منصب رئيس تحرير صحيفة "الأهرام ويكلي" شبه الرسمية التي تعد من أهم الصحف الناطقة بالإنكليزية في العالم العربي. وقد تولى بعد ذلك رئاسة تحرير الصحيفة اليومية التابعة لمؤسسة الأهرام والموقع الالكتروني الناطق بالإنكليزية. في فبراير/ شباط 2013 استبعده الإخوان المسلمون من منصبه.