زلزال سياسي يعصف بديمقراطية تونس الوليدة
لم تتَّفق المعارضة في تونس منذ فترة طويلة مثلما غدت الحال بعد اغتيال شكري بلعيد. كان هذا الاغتيال زلزالاً وَحَّد صفوف المعارضة المنقسمة متجاوزًا الحدود الحزبية، وفجَّر غضب الجماهير من الحكومة.
شارك مئات الآلاف يوم الجمعة الماضي (الثامن من شباط/فبراير 2013) في تشييع شكري بلعيد إلى مثواه الأخير. وجابت شوارع العاصمة جنازة طويلة تحت أمطار غزيرة إلى مقبرة الجلاز التي دُفن فيها بلعيد في قبر مخصص للشهداء في تونس العاصمة. وقبل يومين من تشييع جثمانه تم اغتيال بلعيد بدم بارد بعدة رصاصات أصابته في الرأس والرقبة أثناء مغادرته منزله وهو في طريقه إلى العمل.
وبعد نحو أسبوع من الهجوم على المحامي شكري بلعيد الذي اغتيل عن عمر ناهر ثمانية وأربعين عامًا، استيقظت الحياة السياسية في تونس من هول الصدمة وعادت إلى نشاطها المحموم، ولكن من دون أية خطوط واضحة. والآن يتساءل المرء إلى أين تسير هذه الدولة المتوسطية؟ لكن الإجابة على هذا السؤال أصبحت غامضة أكثر من أي وقت مضى خلال العامين الماضيين بعد الثورة على الدكتاتور السابق زين العابدين بن علي.
أزمة النظام السياسي
وفي يوم اغتيال شكري بلعيد أعلن رئيس الوزراء حمادي الجبالي من حزب "النهضة" الإسلامي المعتدل عن نية تشكيل حكومة من الخبراء في الأيَّام المقبلة، من المفترض أن تتولى قيادة البلاد حتى إجراء الانتخابات.
وكان هذا الإعلان في الواقع بمثابة اعتراف مزدوج بالذنب: فقد فشلت الحكومة الحالية التي يقودها حزبه، وذلك لأنَّها لم تنجح لا في السيطرة على المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد، ولا في إقرار الدستور الجديد في الفترة الزمنية المقرَّرة في غضون عام، وكذلك لم يتمكَّن رئيس الوزراء من تنفيذ التعديل الحكومي الذي أعلن عنه قبل ستة أشهر.
وفي أثناء تشييع بلعيد قال زميله المحامي إلياس الصغيّر إنَّ "المشكلة لا تكمن في الحكومة، بل في الطبقة السياسية التونسية كاملة". وأضاف أنَّه يجب على الحكومة أن تعترف بأخطائها، تمامًا مثلما يجب على المعارضة أن تتحمَّل المسؤولية وألاَّ تستمر في تأجيج الأوضاع السياسية أكثر في الفترة الانتقالية الحالية وحتى موعد إجراء الانتخابات.
وتابع بالقول: "إذا بقينا من دون مؤسَّسات ديمقراطية تتمتَّع بالشرعية ومن دون قضاء مستقل يحمينا من العودة إلى النظام الديكتاتوري، فعندئذ سوف تبقى تونس مهدَّدة". وحتى الآن تم تجاهل إصلاح القضاء والأجهزة الأمنية بصورة خاصة في تونس.
ضغوطات كبيرة
وفي هذه الأثناء لم يعد حمادي الجبالي يتعرَّض لضغوطات بصفته رئيس الوزراء فقط، بل ولكونه الأمين العام لحزبه أيضاً. وفي حين أنَّ إعلانه عن نية تشكيل حكومة جديدة مكوَّنة من أعضاء المعارضة التونسية والمواطنين استُقْبل بترحيب واسع النطاق، إلاَّ أنَّ حزبه عارضه في هذا الشأن.
إنَّ الصراع المتفاقم منذ فترة طويلة داخل صفوف حزب "النهضة" - أي بين القوى المعتدلة وممثِّلي التيار المتطرِّف، وكذلك بين الأجيال وبين الذين ذهبوا إلى المنافي والذين قضوا في عهد زين العابدين بن علي عدة أعوام في السجون (ومنهم أيضًا الجبالي) - بات يهدِّد بانهيار هذا الحزب.
وفي الوقت نفسه يحاول جاهدًا جناح "النهضة" الذي يعارض مبادرة الجبالي إخراج نفسه من هذا المأزق: إذ خرج في نهاية الأسبوع ما بين ألفين وثلاثة آلاف شخص من أنصار هذا التيار في مظاهرات في تونس من أجل مزيد من الاستقرار - ومن أجل دعم الحكومة - ولكن كذلك وقبل كلِّ شيء ضدّ فرنسا. وبحسب المتظاهرين فإنَّ المستعمر الفرنسي السابق هو المسؤول عن الفوضى الراهنة في تونس. ولكن في المقابل تقول المعارضة إنَّ هذا الادِّعاء مجرَّد وسيلة لصرف انتباه التونسيين عن مشكلاتهم الخاصة.
وفي هذه الأثناء أعلن الجبالي عن نيَّته الاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء، إذا لم ينجح في تشكيل حكومة جديدة في الأيَّام القليلة المقبلة. ولكنه لم يتوصَّل إلى هذا القرار من دون استشارة حزبه فقط، بل كذلك أيضًا من دون التشاور مع حلفائه الصغار في الائتلاف الحكومي المكوَّن من حزبي "التكتل" و"المؤتمر من أجل الجمهورية"؛ أعلن هذا الحزب الأخير في نهاية الأسبوع الماضي عن عزمه سحب وزرائه من الحكومة، وثم تدارك في بداية الأسبوع وقال إنَّه "سوف يجمِّد استقالته مؤقتًا".
غضب على حزب "النهضة"
انصبّ الغضب الشعبي بعد اغتيال شكري بلعيد على حزب "النهضة" الذي يتَّهمه الكثيرون من المواطنين بتحمّل المسؤولية عن هذه الجريمة، وذلك لأنَّه خلق، مثلما يقولون، من خلال موقفه المتهاون تجاه المتطرِّفين سواءً داخل صفوفه أم خارجها مناخًا من العنف.
تمكَّن حزب "النهضة" منذ انتخابات الجمعية التأسيسية المكلفة بوضع الدستور في شهر تشرين الأوَّل/ أكتوبر 2011 من توجيه النقاش السياسي لدى الرأي العام بشكل أساسي إلى موضوعات الهوية والدين، والآن صار يعود ذلك بنتائج عكسية على حزب النهضة، لأنَّ الكثيرين من الناخبين السابقين باتوا يشعرون بخيبة أمل.
وفي يوم اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد، صرخ أحد المتظاهرين أمام وزارة الداخلية قائلاً: "لقد صوّتنا للنهضة، لأنَّنا كنا نعتقد أنَّهم يخافون الله، ولكنهم سرعان ما نسوا الله وصاروا لا يهتمون إلاَّ بمناصبهم".
أمَّا القضايا الأساسية التي تشغل بال هذا المتظاهر مثل الكثيرين من المواطنين التونسيين فهي التنمية الاقتصادية في البلاد وكذلك العدالة والاستقرار. ولكن هذا هو بالذات ما لم تستطع الحكومة بقيادة حزب "النهضة" تقديمه للمواطنين - تمامًا مثلما كانت الحال مع الحكومة العلمانية السابقة؛ أي الحكومة الانتقالية بقيادة الباجي قائد السبسي الذي تحوَّل حزبه المعروف باسم "نداء تونس" في هذه الأثناء إلى ثاني أهم قوة سياسية في تونس.
وفي الواقع لا يزال الغموض يكتنف المسؤول عن الهجوم على شكري بلعيد. وفي هذا الصدد قال مؤخرًا رئيس الوزراء حمادي الجبالي لصحيفة لوموند الفرنسية إنَّ هناك "جهازًا بأكمله ولديه استراتيجيته الخاصة يقف خلف هذا الهجوم". وأضاف أنَّ هذا الاغتيال السياسي هدفه أكبر بكثير من شكري بلعيد: "بلعيد هو الضحية، ولكنه ليس الهدف. والهدف هو تونس برمّتها. ولذلك يجب علينا التكيّف مع عواقب خطيرة للغاية".
وكذلك كان رأي المحامي إلياس الصغيّر مشابهًا تمامًا، فقد قال: "يجب علينا ألاَّ نستبق الوقت في توجيه أصابع الاتِّهام. لقد كان الهدف من اغتيال بلعيد هو تحريض التونسيين بعضهم ضدّ بعض وإيقاع البلاد في حالة من الفوضى". والآن سواء كان المسؤولون عن هذا الهجوم - مثلما يتكهَّن البعض في تونس - هم السلفيين أو الميليشيات المقرَّبة من حزب "النهضة" أو حتى قوى النظام القديم التي تسعى إلى زعزعة الاستقرار في البلاد، فإنَّ هذا الاغتيال يصيب الحكومة الائتلافية في وقت غير مناسب على الإطلاق.
وهنا لا يتعلَّق الأمر كثيرًا بقضايا الهوية التونسية أو بالصراع بين الإسلامويين والقوى العلمانية قطّ، بل بالأداء الحكومي الجيِّد. وعلى الأرجح أنَّ الديمقراطية في تونس غدت الآن على المحك.
سارة ميرش
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013