أجندة اليمين المتشدد توجّه بوصلة المشهد الحزبي في إسرائيل
إعادة ترتيب المشهد الحزبي في إسرائيل هي قاعدة، متعارف عليها وغير منصوص عليها بقانون، يتم الأخذ بها قبل كل انتخابات برلمانية في الدولة العبرية منذ فترة طويلة. انطباق هذه القاعدة على الانتخابات، التي قُرِّرَ إجراؤها في 22 يناير/ كانون الثاني 2013، يُظهِر اتجاهاً ثابتاً ضمن هذا المشهد المتغير، وهو أن السياسة الإسرائيلية الخارجية باتت تميل بشكل أساسي نحو اليمين، وتزداد بذلك قوة الأحزاب اليمينية المتشددة باستمرار، سواء الأحزاب القومية-الدينية منها أو العلمانية.
وحتى الأحزاب التي كانت في السابق محسوبة على الوسط في الطيف السياسي الإسرائيلي باتت تتحوَّل وبشكل متزايد نحو اليمين، ليغدو اليسار مجرَّد ظاهرة هامشية. والدليل على هذا التطوّر هو صعود حزب "البيت اليهودي" اليميني ضمن استطلاعات الرأي التي أجريَت إبّان هذه الانتخابات.
ففي حين لم يحصُل هذا الحزب في الانتخابات الماضية إلاَّ على ثلاثة مقاعد فقط، من الممكن الآن أن تتضاعف حصته من أصوات الناخبين، بزعامة رئيسه الجديد نفتالي بينت، إلى خمسة أضعاف بل وقد يحتل المركز الثاني بين القوى السياسية في البلاد.
وفي هذه الحالة سيرتفع ترتيبه ليصبح قبل حزب العمل وبعد حزب بنيامين نتنياهو، أي حزب الليكود: الذي لم يعد يُحسَب من أحزاب الوسط تماماً بعد اندماجه مؤخراً مع حزب "إسرائيل بيتنا" القومي المتطرِّف بزعامة أفيغدور ليبرمان المولود في روسيا.
ضمّ أراضٍ فلسطينية إلى إسرائيل
زعيم حزب "البيت اليهودي" نفتالي بينت، الذي جعلت وسائل الإعلام منه نجماً صاعداً في إسرائيل، بات يتحدَّث بكل وضوح عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الفلسطينيين. فللمرة الأولى لم تعد رؤية ضبابية لحلم دولة إسرائيل الكبرى تتصدر مواقف هذا السياسي ذي التوجّهات العسكرية القومية المتديِّنة.
وهو الحلم الذي لم يعد يسعى إليه الآن إلاَّ المستوطنون الجدد الأشد تطرّفًا للغاية في حزبهم الصغير المعروف باسم "القوة من أجل إسرائيل"، والذي من المتوقع أن يفوز بمقعدين أو ثلاثة مقاعد في الكنيست.
لا يُعتَبر نفتالي بينِت سياسياً حالماً، بل هو من أنشط المتحمِّسين لفكرة واضحة وهي: ضمّ الأراضي الفلسطينية إلى دولة إسرائيل. إذ إنَّه يريد ضمّ المنطقة جيم (المنطقة سي) التي تحتلها إسرائيل وتسيطر عليها سيطرة تامة في الضفة الغربية بشكل رسمي إلى الدولة اليهودية.
وتشكِّل هذه المنطقة نحو 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية، كما يعيش فيها حسب التقديرات من 50 إلى 70 ألف فلسطيني، من الممكن تعويضهم عن تلك الخسارة، بحسب قول زعيم هذا الحزب بمنحهم كافة الحقوق كمواطنين إسرائيليين.
غطرسة الاحتلال
وتتجلى غطرسة الاحتلال الإسرائيلي في المسار الجديد الذي يراه نفتالي بينيت، فهو مستعد لإبقاء السلطة الوطنية الفلسطينية موجودة، ولكن تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، بل ويرفض رفضاً تاماً قيام دولة فلسطينية.
وهو مقتنع كذلك بقدرته على تفسير آثار الربيع العربي على التطوّرات المستقبلية في قطاع غزة تفسيراً صحيحاً؛ حيث يعتقد أنَّ حركة حماس الحاكمة هناك سوف ترتبط قريباً وعلى أية حال مع مصر التي تحكمها جماعة الإخوان المسلمين. ومن خلال ذلك سوف يتخلَّص الإسرائيليون أخيراً من مشكلة غزة - مثلما يعتقد نفتالي بينت.
يمتاز خطاب هذا المليونير ورجل الأعمال الذي كان يعمل سابقًا في مجال البرمجيات ويبلغ عمره أربعين عاماً بمزيج مكوَّن من تمجيد الذات والتعالي وعدم الواقعية. فقد فاجأ الصحافة قبل أسبوع من الانتخابات بقوله إنَّ حزب البيت اليهودي ليس حزباً يمينياً، بل من أحزاب الوسط.
"طفل يرتدي القبعة اليهودية"
وبذلك أشار نفتالي بينت، الذي سخر منه المستوطنون المتشدِّدون بسبب تصريحه هذا ووصفوه بأنَّه "طفل يرتدي القبعة اليهودية"، إلى استعداده للدخول في ائتلاف مع تحالف حزبَيْ الليكود وإسرائيل بيتنا: طالما لم تكن هناك نية، حسب قوله، لإخلاء المستوطنات الإسرائيلية وطالما بإمكان حزب "البيت اليهودي" التعايش تعايشاً جيداً مع مثل هذا الائتلاف.
وفي الحقيقة لم يكن المعنيون داخل أوساط حملة نتنياهو الانتخابية، التي كان ينتمي إليها في عام 2008 هذا السياسي اليميني المتطرِّف، يعرِفون تمامًا ومنذ البداية كيف يجدر بهم التعامل مع ظاهرة نفتالي بينت. ثم حاول حزب الليكود في واحدة من دعاياته الانتخابية المصوّرة فضح مخططات حزب بينت التي لم تكن معروفة بوضوح ووصفها بأنَّها متطرِّفة للغاية.
ولكن مع ذلك من الملفت للنظر أنَّ حزب الليلكود قد بات يتجاهل المسألة الأكثر أهمية، وهي جهود ضمّ أراضٍ فلسطينية إلى إسرائيل. ومن جهة أخرى تردَّد في الأيَّام الأخيرة داخل أوساط حزب الليكود أنَّه من الممكن تصوّر نفتالي بينت كشريك في ائتلاف حزبي.
وسارع بينت في الاستجابة لذلك في أحد أحدث ملصقاته الدعائية الانتخابية، وفيها صورة له مع رئيس حزب الليكود بنيامين نتنياهو وشعار يقول: "نحن أقوياء معاً".
ولكن على الرغم من هذا الاحتضان إلاَّ أنَّ المعنيين في حزب الليكود لا يرغبون في تحديد موقفهم من القضية الفلسطينية. ولذلك يُعتبر حزب نتنياهو الحزب الوحيد الذي يخوض الانتخابات وقد امتنع حتى النهاية عن نشر برنامجه الانتخابي. وعوضاً عن ذلك يشير في دعايته الانتخابية إلى "الإنجازات" التي حقَّقتها حكومة نتنياهو.
الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبرى
ومن بين هذه الإنجازات على سبيل المثال أيضاً الاعتراف الحكومي، الذي تم مؤخراً ويثر الكثير من الجدل في داخل البلاد: وهو الاعتراف بمعهد "أرييل" العالي الموجود في مدينة المستوطنين، واعتبار هذا المعهد جامعة معترفاً بها رسمياً.
وهذا دليل آخر على أن حزب الليكود يسعى إلى توطيد واقع الاحتلال من خلال عملية ضمّ خَفيّة على الأقل للكتل الاستيطانية الكبرى. وعلى الأرجح أن هذا الاتجاه الملحوظ منذ عدة أعوام سوف يتَّضح من خلال تكاتف حزب الليكود مع حزب نفتالي بينت.
وكذلك شيلي يحيموفيتش رئيسة ومجدِّدة حزب العمل، الذي من المتوقّع أن يصبح أقوى أحزاب المعارضة، يبدو أنها تقبل على الأقل جزئياً بوضع الاحتلال الراهن. صحيح أن يحيموفيتش التي كانت تعمل في السابق مقدِّمة برامج إذاعية وتلفزيونية، تسعى إلى تحقيق حلِّ الدولتين، ولكنها تريد الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية وتعرض على الفلسطينيين في المقابل عملية نقل للسكَّان.
كما من البديهي للسياسية شيلي يحيموفيتش أن تستمر الدولة في تقديم الدعم وبكافة الوسائل للمستوطنين الإسرائيليين ولكل أعمال المستوطنات، إلى أن يتم إخلاء جزئي محتمل للأراضي الواقعة ضمن المنطقة جيم، وكذلك من البديهي لها دعم الدولة لعملية توسيع الكتل الاستيطانية الكبرى القائمة.
ولكنّ خصومها اليساريين يختلفون معها في الرأي، ويتَّهمون حزب العمل بفك ارتباطه بجدول أعماله الاجتماعي الخاص بقضية المستوطنات. ومن وجهة نظر اليساريين تعتبر الحالة الاقتصادي المُتأزِّمة التي تعاني منها قطاعات واسعة من المواطنين الإسرائيليين هي نتيجة مباشرة لتدفُّق مبالغ كبيرة من أموال الدولة إلى المستوطنات.
هذا الاختلاف في الرأي هو أحد أسباب رفض شيلي يحيموفيتش التصنيف الشائع لدى الرأي العام الإسرائيلي رفضًا قاطعًا، والذي يصنف قائمتها الانتخابية على أنَّها ذات توجه يساري، وترى أن موقع حزبها في الوسط.
لكن الأصح والأنسب هو تصنيف حزبها في يمين الوسط، وذلك لأنَّ موقفها من قضية المستوطنات يذكِّر من حيث المبدأ بموقف نتنياهو في فترة ولايته الأولى (من عام 1996 وحتى عام 1999)، حين أعلن عن استعداده تنفيذ اتفاقيات أوسلو نتيجة الضغوطات الدولية الكبيرة، ولكنه بعد ذلك وفي آخر المطاف عمل على إعاقة الاتفاقيات.
سياسة استعراض العضلات
وفي حين كان شعار نتنياهو الانتخابي في تلك الفترة "نحن سنحقق سلاماً مضموناً"، صار يبحث المرء في هذه الأيَّام عن رسالة سلام صريحة وواضحة ولكن من دون جدوى - والآن يتردَّد دوي شعار حملة نتنياهو الانتخابية الحالية بعبارة سلطوية يرد فيها: "رئيس وزراء قوي من أجل إسرائيل قوية".
وكذلك يسعى نتنياهو من أجل حماية البلاد من "الاضطرابات الشديدة" في الشرق الأوسط إلى إنجاز عدة مشاريع من بينها تشييد "سياج أمني" يحيط بكافة حدود الدولة. كما أنَّه يروِّج لهذا المشروع في دعاية انتخابية يظهر فيها رئيس الوزراء واقفًا أمام خريطة للمنطقة وهو يشير بإصبعه على امتداد خط الحدود الحالي الذي يشمل مرتفعات الجولان المحتلة ونهر الأردن.
وهذا التعبير عن الذات لا يشير إلى أن نتنياهو مستعد للسماح للفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية، خاضعة للسيطرة الفلسطينية، في الضفة الغربية التي يشكِّل نهر الأردن حدودها الشرقية.
ولا يوجد ما يشير إلى وجود مثل هذا الاستعداد كذلك لدى تسيبي ليفني زعيمة حزب "الحركة" الجديد أو حتى لدى حزب "يوجد مستقبل" الجديد الذي أسَّسه مقدِّم البرامج التلفزونية السابق: لابيد يائير. ولا يستطيعان تصوّر الدولة الفلسطينية المستقبلية إلاَّ كدولة "منزوعة السلاح"، أي كدولة محاصرة تخضع حدودها الخارجية لرقابة شديدة من قبل الجيش الإسرائيلي.
وإذا انضمَّ كذلك كلّ من تسيبي ليفني ولابيد يائير إلى تحالف نتنياهو الحزبي اليميني، وهو أمر محتمل في الوقت الراهن، فعندئذ سوف تبدو الأمور قاتمة بالنسبة لمستقبل مفاوضات السلام بين الإسرائيلين والفلسطينيين.
يوسف كرواتورو
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013
ولد الدكتور يوسف كرواتورو عام 1960 في حيفا ودرس التاريخ وتاريخ الفن وعلوم الديانة اليهودية في جامعة القدس وفي جامعة فرايبورغ الألمانية. وبدأ العمل منذ عام 1988 صحفياً حراً في إسرائيل، ومنذ عام 1992 يعمل لصالح صحيفة فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ الألمانية وصحيفة نويه تسورشَر تسايتونغ السويسرية.