تآلُف الرأسمالية والماركسية في الحرب السورية
الدردشة في الواقع ليست جزءًا من عمله. ولكن في الحادي والعشرين من شهر تمُّوز/يوليو 2017 أراد قائد قيادة "العمليَّات الخاصة" بالجيش الأمريكي أن يُبيِّن على ما يبدو كيف يمسك بزمام الأمور.
حيث أخذ الجنرال ريموند توماس مكانه على المنصة في مؤتمر أمني عقده معهد أسبن في ولاية كولورادو الأمريكية. وبلهجة مسترخية انتقل الحديث مع المُقدِّمة من نقطة ساخة إلى أخرى عبر جميع أنحاء العالم. وبعد نصف ساعة وصل الجنرال في حديثه إلى سوريا، وعلى وجه التحديد إلى شمال هذه الدولة الشرق أوسطية، التي تُعَدُّ مسرحًا لحرب مستمرة منذ ستة أعوام.
هناك أيضًا في شمال سوريا تعمل وحدات من "القوَّات الخاصة الأمريكية" تحت قيادة هذا الجنرال الحاصل على الكثير من الأوسمة. وليس سرًا أنَّ هذه الوحدات موجودة هناك من أجل محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية". ومن المعروف أيضًا أنَّ القوَّات المسلحة الأمريكية تتعاون هناك مع "ميليشيات كردية عربية" تُعرف باسم "قوَّات سوريا الديمقراطية" (SDF) وقد تم تأسيسها مؤخرًا فقط في عام 2015.
ولكن حتى الآن لم يُقدِّم المسؤولون العسكريون الأمريكيون أي تعليق علني لتحديد هوية هذه الميليشيات الغامضة. كما أنَّ "قوَّات سوريا الديمقراطية" هذه كانت تعتبر حتى الآن بمثابة لغز حتى بالنسبة للخبراء المتعمقين في الشؤون السورية.
في كولورادو كشف الجنرال توماس وبشكل مفاجئ عن مخططاته. فقد ذكر أنَّه التقى في عام 2015 بمسؤولين سياسيين وقادة ميليشيات أكراد من حزب العمال الكردستاني. وقال لهم: "يجب عليهم أن يُغيِّروا اسم تنظيمهم". وأوضح الجنرال توماس أنَّ الاسم القديم لم يكن مناسبًا. وقال الجنرال للجمهور: "عندما يركِّزون كثيرًا على صلتهم بماضيهم، أي بحزب العمال الكردستاني، فعندئذ يخلق ذلك مشكلة".
وذلك لأنَّ حزب العمال الكردستاني المنحدر من تركيا يتم تصنيفه في العديد من دول العالم بما فيها ألمانيا على أنَّه "تنظم إرهابي". ومن الواضح أنَّ قادة الميليشيات الكردية قد فهموا ما يريده هذا القائد العسكري الأمريكي. "فبعد يوم واحد فقط أعلنوا أنَّ اسمهم الآن هو قوَّات سوريا الديمقراطية"، مثلما قال الجنرال توماس لينتقل إلى نقطة أخرى: "اعتقدت أنَّ إدخالهم كلمة الديمقراطية في مكان ما ضمن الاسم الجديد كان إنجازًا رائعًا". وبعد سماع ذلك ضحك الجمهور في كولورادو بحماس.
مؤشِّر على التشابك غير المعقول في الحرب السورية
وبالتالي فقد كشف الجنرال الأمريكي عن أنَّ "قوَّات سوريا الديمقراطية" هى في الحقيقة مجرَّد اسم مستعار لمقاتلي حزب العمال الكردستاني. وهذا التحالف بالذات غير واضح، لكنه يجمع القوة العالمية الإمبريالية والرأسمالية، الولايات المتَّحدة الأمريكية، مع تنظيم كردي يساري يلتزم بأفكار ماركسية ويحلم باقتصاد تعاوني اشتراكي. وعلاوة على ذلك فإنَّ تركيا تعتبر حزب العمال الكردستاني تنظيمًا إرهابيًا معاديًا للدولة التركية، العضو في حلف الناتو وبذلك الحليف الرسمي للولايات المتَّحدة الأمريكية.
ولذلك ليس من المبالغة القول إنَّ هناك قطبين سياسيين متعارضين في شمال سوريا قاما بتشكيل تحالف، يمكن اعتباره مؤشرًا على التشابك غير المعقول في الحرب السورية.
والحقيقة أنَّ هذا التحالف المتناقض سياسيًا يُحقِّق نجاحًا عسكريًا. فمنذ عام 2015 لا يزال هؤلاء الحلفاء يدحرون تنظيم "الدولة الإسلامية" ويجبرونه على التراجع من قرية تلو الأخرى ومن مدينة تلو الأخرى. وهنا يتقاسم المتحالفون العمل فيما بينهم بشكل واضح: حيث يتولى الأمريكيون القصف من الجو، أمَّا مقاتلو حزب العمال الكردستاني، الذين يسمون أنفسهم في شمال سوريا رسميًا باسم "وحدات حماية الشعب" (YPG)، فهم ينجزون أعمال القذارة على الأرض - بإسناد من بعض أفراد "القوَّات الخاصة الأمريكية". خلال المؤتمر الصحفي في كولورادو أكَّد الجنرال توماس على أنَّ "الأمور تسير جيدًا بالنسبة لنا. لقد فقدوا آلاف القتلى في المعارك. بينما لم نفقد نحن إلاَّ جنديين فقط".
وفي شهر أيَّآر/مايو 2017 أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) عن أنَّها تقوم بتزويد حلفاء "قوَّات سوريا الديمقراطية" (SDF) بالأسلحة النارية وبالهاونات والمركبات المُدرَّعة. وفي مقابلة مع برنامج "بانوراما" في القناة الأولى الألمانية ARD قال ضمن هذا السياق الكولونيل ريان ديلون، المتحدِّث الرسمي باسم الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط: "أعتقد أنَّ هذا القرار كان قرارًا صائبًا. لقد أثبتت قوَّات سوريا الديمقراطية أنَّها القوة الوحيدة، التي لديها القدرة على محاربة تنظيم ’الدولة الإسلامية‘ وهزيمته بشكل فعَّال".
قبل فترة قصيرة دخلت الميليشيات الكردية إلى مدينة الرقة السورية، عاصمة تنظيم "الدولة الإسلامية" السابقة الواقعة على نهر الفرات. وعلى الفور كشف الأكراد عن ولاءهم السياسي. حيث رفعوا في الساحة المركزية داخل المدينة لافتة كبيرة تحمل صورة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، المسجون في سجن تركي منذ ثمانية عشر عامًا.
"الخلفيات السياسية تتلاشى في ساحة المعركة"
أردنا أن نعرف من الكولونيل ريان ديلون مدى طبيعة التعاون مع تنظيم ماركسي بالنسبة للجيش الأمريكي. وحول ذلك يقول هذا الضابط الأمريكي: "نحن الجنود يهمنا أن يكون شركاؤنا قادرين على القتال. أمَّا الخلفيات السياسية فهي تتلاشى في ساحة المعركة".
ولكن في الواقع لا يمكن تجاهل الحديث حول الخلفيات السياسية ومزالقها. فعلى أية حال من الواضح أنَّ هذا التحالف يضع كلا الطرفين أمام مشكلات. ففي أواخر شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2017 كتبت السفارة الأمريكية في أنقرة على موقع تويتر وباللغة التركية أنَّ "أوجلان شخص لا يستحق الاحترام". ولكن على الأرجح أنَّ هذه الرسالة لم تُهدِّئ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
في سوريا لا يسيطر الآن المقاتلون الأكراد فقط على الرقة، التي كانت حتى الحرب مدينة ذات أغلبية عربية، بل لقد باتوا يفرضون سيطرتهم أيضًا على حقول النفط في محافظة دير الزور في جنوب شرق البلاد، بعيدًا عن مناطق الأكراد في الشمال. وبالتالي فإنَّ نشوب صراعات جديدة مع السكَّان العرب أصبح أمرًا لا مفر منه. إذ إنَّ مَنْ يدحر تنظيم "الدولة الإسلامية" فلن يساهم بعد ذلك بالضرورة في تحقيق الاستقرار في البلاد.
كيف ينظر حزب العمال الكردستاني إلى تحالفه مع الأمريكيين؟ خلال نحو خمسة عشر عامًا من سياسات التدخُّل القاسية في الشرق الأوسط أصبحت القوة العسكرية الأمريكية محط الكثير من الكراهية. ولذلك فإنَّ مَنْ يتحالف معها ويجني من خلال ذلك مكاسب إقليمية، يخاطر بإثارة عداء العديد من الجماعات والحكومات في المنطقة ومعارضتها له.
ماذا سيحدث عندما يأتي يوم الانتقام؟ هل ستسرع الولايات المتَّحدة الأمريكية لمساعدة حزب العمال الكردستاني؟ وماذا عن هذا التنظيم الكردي ومصداقيته السياسية؟ من الملاحظ أنَّ حزب العمال الكردستاني لا يحب انتشار صِيت تحالفه مع الإمبريالية الأمريكية. وعلى ما يبدو فإنَّ أعضاء حزب العمال الكردستاني يشعرون بالحرج من ذلك أمام أنصارهم ذوي التوجُّهات الثورية.
عندما ظهرت الممثِّلة العليا للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في أوروبا، السيِّدة سينِم محمد، في مدينة هامبورغ الألمانية، تحدَّثت بإسهاب حول تحرُّر المرأة والاقتصاد الجماعي في "روج آفا"، وهو الاسم الذي يطلقه حزب العمال الكردستاني على المنطقة الخاضعة لسيطرته في شمال سوريا. ولكن السيِّدة سينم محمد لم تتطرَّق للدور الذي تلعبه الولايات المتَّحدة الأمريكية في الحملة العسكرية الناجحة ضدَّ تنظيم داعش.
وبعد سؤالها من قبل مراسل برنامج بنوراما في القناة الأولى الألمانية ARD، اعترفت هذه المسؤولة السياسية الكردية بأنَّ تنظيمها يتعاون "عسكريًا" مع الولايات المتَّحدة الأمريكية. وقالت: "نحن لا نفعل ذلك في جميع المجالات الأخرى". ولكن من المعروف أنَّ الجانب "العسكري" هو العامل الحاسم في الحرب.
"هذه معضلة، غير أنَّها ضرورة تاريخية"، مثلما يقول السيِّد مارتن دولزر، وهو نائب عن حزب "اليسار" الألماني في برلمان مقاطعة هامبورغ الألمانية، وقد شارك مؤخرًا في تنظيم مظاهرة للاحتجاج على ظروف سجن زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان. وفي هذه المظاهرة احتفل المتظاهرون أيضًا بالانتصارات العسكرية في "روج آفا".
ومثلما هي الحال دائمًا في مثل هذه المظاهرات، يختلط بين الأكراد متظاهرون ألمان من المشهد اليساري. وبعضهم يحملون رايات حمراء، على واحدة منها مطرقة ومنجل. يهتف المتظاهرون بصوت واحد "عاش التضامن العالمي". يؤكِّد متظاهر شاب ذو شعر أشقر قائلاً: "أنا مناهض للإمبريالية". ونسأله بدورنا: "لكن ألاَّ يجب عليك أن تكون مُمْتَنًا الآن للإمبريالية؟ لأنَّها ساعدت حزب العمال الكردستاني". فيجيب هذا الشاب: "في الوقت الحالي التعاون مع الولايات المتَّحدة الأمريكية أمر صحيح. ولكن هذا يُسبِّب لي ألمًا في المعدة. لأنَّ هذا بطبيعة الحال تناقض".
بالنسبة للمشهد اليساري في ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى تعتبر "روج آفا"، أي شمال سوريا المُحَرَّر، بمثابة شيء مثل كوبا الجديدة، أو تكاد تكون مثل ولادة جديدة لـ"فييت كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام) - إلى حدّ ما، لولا وجود هذا الاختلاف. إذ إنَّ القائد الكوبي فيدل كاسترو والصيني هوشي مينه قاوما الإمبريالية الأمريكية، في حين أنَّ "روج آفا" تدين بوجودها لهذه الإمبريالية.
المتظاهر الألماني المتعاطف مع حزب العمال الكردستاني، الذي يحمل الراية الحمراء ذات المطرقة والمنجل، يعترف بضرورة هذا التعاون مع الأمريكيين، غير أنَّه لا يُعوِّل على أية أوهام، ويقول: "عندما لا يعودون بحاجة لك، فعندئذ يرمونك بعيدًا".
شتيفان بوخن وَ كارامان يافوز
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017
تم نشر هذا المقال في شكله الأصلي كريبورتاج تلفزيوني في برنامج "بانوراما" لدى القناة الأولى الألمانية ARD في السادس والعشرين من شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2017.