إرث حلب التاريخي.....في زمن الضياع والضباع
تعتبر حلب واحدة من أقدم المدن في العالم، ولكنها مهددة الآن بالدمار. وتخشى منظمة اليونسكو أن تتعرض مواقع التراث العالمي في هذه المدينة لأضرار لايمكن إصلاحها أو ترميمها. وتجسد تلك المواقع التراثية، على نحو خاص، التنوع الديني والعرقي في سوريا. ولاتستطيع المنظمة تحديد ماهي الأضرار الفعلية التي سببتها المعارك حتى الآن. لأنه لا توجد معلومات موثوقة من سوريا.
ولا يتعلق الأمر بالحجارة القديمة الشاهدة على الماضي العريق، المباني التاريخية في حلب هي أيضا جزء من الهوية متعددة الثقافات للمدينة. وهذه الهوية باتت الآن مهددة أيضا. الحاضرة التجارية السورية تمتلك تاريخا عريقا يزيد عمره على 5000 عام. في القلعة الشهيرة التي تعود للقرون الوسطى والواقعة على تلة في وسط المدينة، تم العثور على آثار للحضارة البشرية تعود جذورها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، بينما تبث وكالات الأنباء الآن تقارير عن قصف قوات الأسد لهذه القلعة أثناء هجومها على كتائب الثوار.
حصن منيع في مواجهة الصليبيين
ويعود أصل تسمية المدينة، وفقا للأسطورة الموجودة في الكتاب المقدس، إلى النبي إبراهيم، الذي كان عنده ماعز، وفي روايات أخرى أغنام أو بقرة، كان يربيها على التلة ويحلبها، فصار يقال "حَلَبَ إبراهيم"، ذلك لأن الفقراء كانوا ينتظرون الحليب الذي يوزعه إبراهيم عليهم. تظهر هذه القصة الأهمية الكبيرة لمدينة حلب في تاريخ البشرية. أما القلعة نفسها فقد بنيت في القرن الثاني عشر للتصدي لهجمات الصليبيين.
ولقرون عديدة كانت المدينة واقعة في مركز طرق التبادل التجاري بين أوروبا والشرق الأقصى. ومن خلال التجارة بعيدة المدى مع الدويلات الإيطالية في القرن السادس عشر اكتسبت حلب أهمية كبرى وثروة طائلة. كان التجار يجلبون التوابل والحرير من إيران والهند والصين لتلبية الطلب المتزايد من الطبقة الوسطى في أوروبا، وكانوا يتوقفون دائما في حلب.
سوق حلب - المركز الحيوي للمدينة
النُزل الرائعة والخانات والمساجد والبيوت التاريخية بقيت إلى اليوم شاهدة على الدور الكبير الذي لعبته المدينة في مجال التجارة الدولية العابرة للقارات. ويضم الجزء القديم من المدينة 16000 من البيوت التاريخية، موجودة على مساحة تمتد إلى حوالي 350 هكتارا، لتشكل أكبر حي سكني تقليدي في العالم العربي. كما يعتبر السوق القديم (أو ما يعرف في حلب بسوق المدينة) أحد أكبر الأسواق في الشرق الأوسط، حيث يمتد السوق بحواريه الضيقة المسقوفة بطول 12 كيلومترا، وبآلاف المحلات التجارية التي يضمها، كان حتى قبل سنوات قليلة المركز الحيوي للمدينة.
والهندسة المعمارية هي انعكاس لتاريخ حلب متعدد الثقافات، والتي تتميز بمزيج عرقي يضم العرب و الشركس والأرمن والتركمان والأكراد، وبمزيج ديني من المسلمين والمسيحيين واليهود، ولكن معظم اليهود غادروا البلاد بعد عام 1948. المدينة القديمة الضاربة في جذور التاريخ اجتذبت في السنوات الأخيرة، قبل بدء الثورة ضد الأسد، السياح من كافة أرجاء العالم، ولكن الحلبيين لم يبدأوا في اكتشاف ذاكرتهم التاريخية إلا مؤخرا. وحتى السلطات المحلية احتاجت وقتا طويلا لتتعرف على قيمة المدينة، لأنه وحتى أواخر القرن العشرين تصدعت أجزاء كبيرة من الجزء القديم من مدينة حلب. ومن كانت قدراته المادية تساعده، انتقل للعيش في الأحياء الجديدة في سنوات جنون التحديث الجامحة.
انخفاض حاد في عدد السكان
وخلال أربعين عاما، أي من 1945 وحتى 1995، عرف الجزء القديم من حلب انخفاضا في عدد السكان بمقدار النصف. وفي عام 2011 لم يبق هناك سوى مائة ألف شخص فقط، كانوا في المقام الأول من تلك العائلات ذات الدخل المحدود، وجزء منهم عاد من الأرياف، بعد أن خرج الأغنياء للعيش في الضواحي الجديدة. هؤلاء العائدون إلى الأحياء القديمة كانوا غالبا في وضع مادي لا يسمح لهم بترميم المنازل وإصلاح السقوف. الأساسات تآكلت والمنازل بدأت بالتصدع. في ثمانينات القرن الماضي كان تصور السلطات المحلية لمفهوم التحديث هو هدم المنازل القديمة من أجل شق شوارع واسعة لتسهيل حركة المرور التي خططوا بأن تمر عبر الأحياء القديمة من المدينة.
ولم تتوقف تلك الخطط إلا بعد احتجاجات المهندس المعماري السوري البارز عدلي القدسي، وكذلك بعد إدراج المدينة القديمة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو في عام 1986، عندها قام المجلس المحلي للمدينة بتغيير خططه جزئيا واكتشف الإمكانيات السياحية الهائلة لمواقع التراث الثقافي العالمي. وبالتعاون مع المانحين الدوليين، عملت إدارة الأحياء القديمة في حلب خلال السنوات الأخيرة على استعادة البلدة القديمة لرونقها.
ترميم ناجح للأحياء القديمة
أبرز الجهات المانحة كانت مؤسسة الآغا خان والوكالة الألمانية للتعاون التقني، وكذلك جمعية "أصدقاء مدينة حلب القديمة"، وهي جمعية صغيرة من مدينة شتوتغارت الألمانية. عملت تلك المؤسسات على ترميم المباني التاريخية الهامة وإعادتها إلى وضعها السابق. فحصل السكان على قروض ميسرة وعلى الدعم التقني. كان الأمل معقودا أن تنجح هذه الطريقة في تحسين ظروفهم المعيشية، وفي إيقاف هجرة السكان من المدينة القديمة.
وهكذا فقد عرف حوالي ألف بيت طريقه إلى استعادة رونقه في السنوات الخمسة عشرة الماضية. كما تم تنفيذ جزء من منطقة سير المشاة حول تلة القلعة، بهدف تقليل حركة مرور السيارات وتحسين نوعية الهواء في المدينة القديمة، ولكنها قطعت "سوق المدينة" عن زبائنه.وتم أيضا ترميم "باب قنسرين"، تلك البوابة الأثرية في الجهة الجنوبية للمدينة القديمة، وكذلك الأمر "بيمارستان أرغون"، وهو مستشفى تم تشييده في القرن الرابع عشر، وفي ذلك الوقت كان يتم فيه معالجة المرضى النفسانيين بالموسيقى. و"بيمارستان أرغون،" هو واحد من أجمل الباحات الداخلية في حلب، وتم تحويله إلى متحف صغير يقدم معلومات عن الإنجازات العلمية للأطباء والعلماء العرب. المحافظة على المدينة القديمة لم تكن ضمن اهتمام المانحين الدوليين فقط، بل حتى الحلبيين أنفسهم كانوا يرون منذ فترة طويلة بأن المباني القديمة هي خير وسيلة لاجتذاب السياح إلى المدينة.
الاهتمام بتراث الأجداد
ولكن في السنوات الأخيرة، قبل بدء الانتفاضة ضد الأسد، ظهر لدى الحلبيين اهتمام متزايد بتراثهم التاريخي. "جمعية العاديات" مثلا - ومعنى كلمة "عاديات" الأشياء القديمة - التي يرأسها محمد قجة ويدير شؤونها تميم قاسمو، وهو مهندس مدني من أصول أذربيجانية، أخذ على عاتقه مهمة إيقاظ الاهتمام بهذا التراث التاريخي لدى المواطينين، وخاصة الطبقات المتعلمة منهم، وذلك عبر الجولات والمحاضرات.
وجذبت تلك الجولات المزيد والمزيد من المهتمين، الذين كان يمكن ملاحظتهم في أيام العطل وهم مجهزين بكاميرات رقمية ودفاتر صغيرة يدونون عليها ملاحظاتهم، موزعين في مجموعات لاستكشاف البلدة القديمة، كسياح وباحثين داخل مدينتهم.
"لقد بدأ الحلبيون رويدا رويدا يدركون أهمية التراث الثقافي الهائل الذي يملكونه"، هذا ما قالته جيني بوشر مراش، واحدة من أفضل الخبراء في تاريخ حلب، خلال زيارة قامت بها إلى المدينة في منتصف عام 2010. تنحدر هذه السيدة المعمرة من جذور نمساوية - مجرية وهي تنتمي إلى الطبقة العليا المسيحية، ونشأت في موقع الوكالة التجارية لمدينة البندقية، والتي جرى تأسيسها عام 1539 في "خان النحاسين"، ولديها واحدة من أكبر المجموعات الخاصة من الوثائق التاريخية والصور الفوتوغرافية للمدينة.
وقد ضُمت أجزاء من مجموعتها التاريخية الفريدة إلى أرشيف المدينة الذي تم إنشاؤه في عام 2010، بدعم من المؤسسة الألمانية للتنمية. وهكذا تم وضع الكثير من الوثائق التاريخية، التي كانت ملكية خاصة لأصحابها، في محفوظات المدينة وصارت متاحة لكي يراها الجمهور. وفي 11 ديسمبر/ كانون أول 2010 جرى افتتاح معرض الأرشيف العمراني التاريخي في "مدرسة الشيباني"، والتي كانت سابقا ديرا للفرنسيسكان في حلب. ولكن بالكاد بدأ الحلبيون بالاهتمام بتراثهم وقيمة مدينتهم، لتهددها المخاطر بصورة لم يكن أحد آنذاك يتصورها. فبعد مرور ثلاثة أشهر فقط على افتتاح أرشيف المدينة، بدأت أولى المظاهرات السلمية ضد الأسد في مدينة درعا السورية.
كلاوديا مينده
ترجمة: فـلاح آل يـاس
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012