هل يزال لبنان بعيداً عن التصالح مع تاريخه؟
في الثالث عشر من أبريل من سنة 1975 اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، التي كانت نتاجاً لحروب أهلية متعددة – بين المسيحيين والفلسطينيين، وبين الدروز والمارونيين، وبين اللبنانيين والسوريين، وبين السنة والشيوعيين، وبين الشيعة والشيعة. وقبل 22 عاماً أنهى ما يعرف باتفاق الطائف هذه الحرب، وتبعه عفو عام عن كل الجرائم التي ارتكتبها المليشيات قبل سنة 1991.
لكن حتى يومنا هذا، فإن العنف يتصاعد من جديد، مع تخوف معظم اللبنانيين من اندلاع حرب أهلية جديدة في أي وقت. فهذا المجتمع، الذي لا يزال يلعق جراحاً غائرة سببها مصابو الحرب ومفقودوها، يعيش على حافة حرب جديدة. لقد أثبت مقتل رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري سنة 2005 لمعارضيه قبل مؤيديه، أن لبنان لن يهدأ، إذ تبع مقتل الحريري انسحاب سوري وتعامل بطيء مع تركة الماضي. وهل يمكن القول إن قانون العفو العام أشاع السلام في المجتمع؟ أو إن الهدوء غير ممكن بسبب عدم وجود أي نقاش قانوني أو معنوي علني حول ذلك؟ هذه التساؤلات بات عدد متزايد من اللبنانيين يطرحها، من بينهم مقاتلون وأفراد مليشيات يعتبرون أنهم استفادوا من العفو العام. من بين نقاطها، طالبت اتفاقية الطائف بكل وضوح بمنهج محدد للمدارس يعزز الانتماء الوطني والانفتاح الثقافي والروحاني. وتم الاتفاق آنذاك على وضع كتاب تاريخ ملزم لجيل ما بعد الحرب، إلا أنه حتى الآن لم يتطرق أي من كتب التاريخ إلى الفترة ما بين سنتي 1975 و1990.
ثلاثة محتلين للبنان
في المدارس التابعة لطائفة معينة يتم تدريس نسختها الخاصة بها من التاريخ. وأدت محاولة لاعتماد كتاب حكومي موحد في منتصف شهر مارس الماضي إلى إصابة 15 شخصاً بجروح، أثناء مصادمات بين طلاب حزب الكتائب اللبنانية وقوات الأمن المتواجدة في محيط البرلمان اللبناني، بعد أن وردت أنباء عن إدخال ما يسمى بـ"المقاومة الإسلامية" في كتاب التاريخ الموحد، ويقصد بذلك مقاومة حزب الله ضد إسرائيل في جنوب البلاد. لكن من وجهة نظر جميع أطراف الصراع في لبنان، يوجد ثلاثة محتلين لبلادهم – الجيش الإسرائيلي، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والجنود السوريون. ولهذا تسعى كل مجموعة في الوقت الراهن للاعتراف بجهودها في تحرير البلاد.
كل كتابة للتاريخ مرتبطة بالزمن وبالمصالح، وكل ذاكرة هي بناء مؤقت، يتغير مع تغير الشخوص والمواقف. وما يثبت عدم هيمنة الذاكرة الحكومية بشكل تلقائي التوجه العام في ألمانيا الشرقية للفصل بين آراء الفرد والنظام. أما في لبنان، فقد فشلت الحكومة في تأمين النظام السياسي الجديد من خلال ذاكرة جماعية تعترف بها الأغلبية، فتبادل الذكريات الفردية والعامة لا يتم إلا في الطبقات الثقافية العليا، وهناك يجري ذلك بكثافة، إذ لا تكاد تمر ليلة على بيروت دون معرض فني أو مسرحية أو حفل موسيقي أو قراءة تتطرق إلى الماضي الدموي.
أما بالنسبة للتلاميذ وطلاب الجامعات، فإن التساؤلات حول الماضي تشكل تساؤلات حول المستقبل، فهل ستدفعهم الظروف إلى حمل السلاح مرة أخرى؟ أو كما تسأل مديرة مشروع التاريخ الشفوي "بدنا نعرف": "هل ستقاتلون عندما تقرع طبول الحرب مرة أخرى؟" هذا المشروع تموّله منظمات دولية، وتعاون في السنتين الماضيتين مع 12 مدرسة ثانوية في بيروت. هذا النوع من الأسئلة يرد في كثير من النقاشات مع الشباب، والسبب يعود إلى التطورات الأخيرة في الجارة سوريا.
الانجرار إلى العنف
في الوقت الراهن تحاول كافة القوى السياسية الكبرى في لبنان عدم الانجرار إلى الصراع الدائر في سوريا، خاصة وأن الساسة امتنعوا في الأيام الأخيرة عن إطلاق تصريحات مستفزة. وبالرغم من أكبر خطوط الانقسام الأيديولوجي في البلاد هي بين مؤيدي النظام السوري (الممثلين بحركة 8 آذار بقيادة حزب الله) ومعارضيه (الممثلين بحركة 15 آذار بقيادة مناصري سعد الحريري)، فإن الشارع السياسي اللبناني لا يزال يقاوم الانجرار إلى العنف السوري. حتى أكثر مناصري حزب الله، المؤيد لسوريا ولإيران، باتوا يقولون إن على لبنان أن ينأى بنفسه عن الصراعات في الدول الأخرى.
وبالعودة إلى مشروع كتاب التاريخ الموحد، فقد قام رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي بتعليقه مؤقتاً، لحين إيجاد صيغة توافقية. لكن من غير الواضح كيفية الوصول إلى هذا التوافق دون نقاش علني. أما باتريك ريشا، رئيس مصلحة الطلاب في حزب الكتائب اللبنانية، فقد أعلن أن عشر سنوات أخرى ستنقضي قبل أن يتم الاتفاق على صيغة موحدة للماضي. إذاً بعد 22 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، يعتبر الكثير من المواطنين أن الوقت لا يزال مبكراً للاتفاق على التاريخ، فيما تبدو قلة قليلة مستعدة لتوثيق الصيغ المختلفة وتداولها بشكل علني. وحتى هؤلاء يطلبون عدم الإيغال في جرح الحرب الأهلية، الذي لا زال مفتوحاً، أو كما يقول مؤرخ لبناني شاب: "إذا لم تكن لدينا دولة وطنية فاعلة، فلماذا يجب أن يكون لدينا تاريخ وطني؟"
في لبنان بات من الواضح أن الحاضر أهم من الماضي بالنسبة لما يراد تذكره.
سونيا حجازي
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012