حين تُغيَّب الديمقراطية وتسود الطائفية يسقط القانون - العراق نموذجاً
أشيع في العراق بأن النخبة الحاكمة بكل مكوناتها الراهنة تريد الخلاص من الطائفية السياسية ومن المحاصصة في تشكيل الحكومة العراقية، وأنها تسعى لتشكيل حكومة تكنوقراطية وبناء مجتمع مدني ومحاربة الفساد والإرهاب.
هذه الإشاعة -التي روّج لها كثيرون، حتى ممن يقف بالضد من الطائفية ومحاصصاتها المذلة للشعب والمواطنة- غابت عنهم مسألة بديهية، ولكنها مهمة وأساسية هي: أن النخب الطائفية والفاسدة المرتبطة بالأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية التي مارست التمييز الديني والطائفي، وغرقت حتى قمة رأسها في مستنقع الفساد المالي والإداري والاجتماعي، ولعبت ميليشياتها الطائفية المسلحة دوراً إرهابياً مريعاً في محافظات العراق ضد المجتمع، وساعدت على خرق استقلال العراق وسيادته للجارة إيران، وسمحت بتدخل كثير من الدول في شؤون العراق الداخلية، وجوعت نسبة عالية جداً من شعب العراق وحرمتهم من أهم الخدمات الأساسية طيلة السنوات المنصرمة، لا يمكن لمثل هذه النخب الحاكمة تشكيل حكومة غير طافية وغير فاسدة أو مستقلة.
كما لا يمكنها التخلي عن ميلشياتها الطائفية المسلحة والإرهابية، إذ إنها سند استمرار وجودها وحكمها وبقائها، ولا يمكنها بأي حال من حيث المبدأ والواقع أن تقيم مجتمعاً مدنياً يستند إلى مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة وترفض الدمج بين الدين والدولة، لأن ذاك يتناقض مع أيديولوجيتها الدينية المشوهة ومصالحها، بل ستبقى حبيسة دائرتها الضيقة المقيتة والمميتة وأفكارها السقيمة والرجعية والمتخلفة وممارساتها المخلة بكل ما هو إنساني ونبيل.
"حكومة بطعم العلقم ورائحة العفونة الطائفية"
كانت هذه الإشاعة التي أطلقتها النخبة الحاكمة للتعتيم على نهجها ليست فقط خاطئة، بل وكذبة كبيرة حاول حتى البعض المدني إقناعنا بصوابها. وها نحن وهم والجميع نواجه حقائق الوضع العراقي في تشكيل حكومة من "گرگري" يرأسها "عادلوي"، حكومة بطعم العلقم ورائحة العفونة الطائفية تفوح منها وتزكم أنوف العراق والعالم كله.
حتى إن بعض من دعا إلى تشكيلها بدا اليوم يؤكد طائفيتها. رئيس الوزراء المكلف بتشكيلها كان جزءاً من النخبة الحاكمة طيلة الفترة المنصرمة، ولم يكن مستقلاً عنها أو حيادياً في نهجه وسياساته ومواقفه.
إن الإشكالية ليست في هذا الوزير أو ذاك فحسب، بل بالأساس في طبيعة النظام السياسي الطائفي القائم في العراق، برئيس الوزراء الطائفي ذاته، وبالقوى السياسية المشكلة للسلطة التنفيذية، فهي قوى صادرت الحريات العامة والديمقراطية من خلال سياساتها اليومية وسلوك قادتها وميليشياتها الطائفية المسلحة طيلة الفترة المنصرمة وما تزال.
يمكن للإنسان العراقي الحر أن يكتب مقالاً في الصحافة وينتقد هذه النخبة أو تلك أو الميليشيات الطائفية المسلحة، ولكنه سيبقى مستهدفاً للانتقام بصيغة ما، بما في ذلك القتل عبر تلك الميليشيات الطائفية المسلحة، وحين يعتقل ويعذب، أو حين يقتل لن تُكتشف الجهة التي اعتقلته وعذبته، أو الجهة التي قتلته، وستوجه تهمة ضد مجهول ويحفظ الملف ولن يُعثر على الجهة أو القاتل أبداً، لأنها أو لأن القاتل منهم.
هكذا قتل في الآونة الأخيرة عدد من النساء والرجال، وقبل ذاك قتل المناضل كامل شياع وهادي المهدي، وقتل ابن أختي (أحمد جواد الهاشمي) وزوجته وابنته ذات الأربعة عشر ربيعاً، حيث ذبحوا في دارهم بمنطقة الطارمية من الوريد إلى الوريد... وحيث اغتيل عشرات بل والمئات من المختصين والعلماء والصحفيين والآلاف من العرقيات والعراقيين، وهكذا ستستمر هذه السياسة في ظل هذه الحكومة المباركة من "القيادة الإيرانية والأمريكية" في آن!
حين تغيب شمس الحرية والديمقراطية يغيب القانون
حين تغيب شمس الحرية والديمقراطية ودفًئها عن وطننا العراق، يغيب القانون أيضاً ويتم التجاوز عليه ليل نهار، حينها يختفي فعل القضاء، بما فيه الادعاء العام، وهي الحالة المضنية والقاتمة التي يعيش تحت وطأتها شعب العراق منذ ما يقرب من 16 عاماً.
من حقي كمواطن عراقي أن أتساءل: هل القضاء العراقي مستقل؟ هل يتصرف وفق ما يمليه عليه الدستور العراقي؟ وهل يتابع القضاء والادعاء العام ما يجري في العراق منذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة حتى الآن، دع عنك الفترة السابقة في ظل الحكم البعثي والصدامي الدكتاتوري البغيض؟ وهل يتصرف القضاة على وفق ضمائرهم، ومنهم الادعاء العام، أم أن الطائفية السياسية والفساد والإرهاب والخشية من الإرهابيين أماتت الكثير من تلك الضمائر؟
وإذا كان القضاء مستقلاً، فلماذا لا يُحقق بما صرح به محافظ البنك المركزي بتلف 7 مليارات دينار عراقي بماء المطر وفي بناية البنك المركزي؟ قال العرب: حدث العاقل بما لا يُعقل فإن صدَّق فلا عقل له. فهل القضاء العراق صدق هذه الفرية وكذا الادعاء العام؟
"ألم يجد القضاء في ذلك أي جريمة"؟
قال أحمد الجبوري، عضو مجلس النواب: "آني شراي وأكو من يبيع صوته"، حين اتهم بشراء مجموعة من الأصوات لصالح رئيس مجلس النواب الحالي، ألم ينتبه الادعاء العام وعموم القضاء لهذا القول الوقح في تجاوزه على الدستور العراقي والقوانين المرعية، أم لم يجد القضاء في ذلك أي جريمة، بل مسألة اعتيادية في ظل العراق الفاسد؟ حين يغيب القانون يمارس الفاسدون ما يشاؤون، وقيل قديماً: "غاب القط اِلعب يا فأر!".
"الدكتاتور الصغير "
هناك عشرات القضايا التي أهملها القضاء العراقي والادعاء العام، ولاسيما في فترة حكم نوري المالكي، وما حصل من فساد وإرهاب واجتياح، علماً بأن غالبية الشعب العراقي كانت مقتنعةً بأن القضاء في فترة هذا الدكتاتور الصغير غير مستقل وخاضع له ولإرادته وسكوته عن الكثير من التهم التي وجهت له دون أن يحرك ساكناً.
من المسؤول عن وقوع الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين والمسيحيين وغيرهم؟ من المسؤول عن اغتصاب أخواتنا الإيزيديات وبيعهن في سوق النخاسة؟ من المسؤول عن ترك الأسلحة والأموال لكي تقع في أيدي عصابات داعش المجرمة؟ من المسؤول عن الدمار الشامل في الموصل وعموم نينوى وعن جريمة سپايكر؟
سيبقى الناس يطرحون المزيد من الأسئلة على القضاء العراقي ويطالبون بالإجابة، سيلاحقون القضاء العراقي والادعاء العام ويتهمونه بعدم الاستقلالية والسكوت عما مارسته وما تزال تمارسه النخبة الحاكمة الفاسدة من مفاسد مريعة في العراق، وسيبقى الناس يراقبون ممارسات القضاء والادعاء العام إلى أن تتاح لهم الفرصة لتغييره أو أن يغير نفسه أو ما بنفسه!
كاظم حبيب
حقوق النشر: كاظم حبيب / موقع قنطرة 2018