الثورات العربية والحاجة إلى «السياسيّ»
في الحالة السورية تبدو الحال أشد مأسوية مع الحرب الأهلية التي يخوضها السوريون ضد واحد من أكثر الأنظمة وحشية وإجراماً. فلم تظهر القوى السياسية السورية في هذا الصراع أية قدرة وذكاء سياسيين، بل أبدت عجزاً عاماً في كل شيء تقريباً من المفاوضات إلى إدارة المناطق المحررة إلى توحيد القوى العسكرية وتقديم برنامج سياسي لإدارة المعركة مع النظام.
إهمال مركزية «السياسي» هو ما ميز الثورات العربية وفشلها. ليس المقصود بالحديث عن السياسي التطرق إلى التكتيكات والتحالفات التي يقوم بها السياسيون أو تقديم مقارنة بين برامج الأحزاب السياسية المختلفة، بل يدور حول السياسي نفسه، بوصفه مجالاً مستقلاً بذاته ولا يمكن رده إلى مجالات أخرى باعتبارها أكثر أساسية أو أهمية منه.
ما افتقدناه في اللحظة الثورية ليس السياسيين، أولئك الذين يسعون لتصدر المنابر والوقوف أمام الكاميرات، بل السياسي القادر على تحديد طبيعة الصراع والتناقضات الأساسية التي يتم على أساسها تحديد الأعداء والأصدقاء والقادر على اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة في ما يخص الصراع السياسي، مهما كانت قسوة هذه القرارات أو صعوبتها، ومن دون أن يخضع لابتزاز غير السياسيين من أخلاقيين أو غيرهم.
لنصوغ القضية في شكل أكثر تحديداً ووضوحاً، وفي شكل خاص في مواجهة خصوم السياسي الذين ينازعونه استقلاله. في الحالة العربية، وفي شكل خاص السورية، يوجد طرفان ينازعان السياسي، وهما المؤرخ والأخلاقي.
«الإنسان الفرد قادر على تغيير مصيره ومصير مجتمعه وفق القرارات التي يتخذها»
ليس المقصود بالمؤرخ أن يكون مؤرخاً فعلاً ولكنه يستخدم تبريرات تجد أصولها في العمل التأريخي وليس السياسي. «الإنسان الفرد قادر على تغيير مصيره ومصير مجتمعه وفق القرارات التي يتخذها» ليست سوى فرضية بالنسبة للمؤرخ، ومثل أية فرضية قد تكون صحيحة أو لا وفق المادة التاريخية التي يعالجها أو المدرسة التاريخية التي ينتمي إليها، فهناك مدارس تاريخية لا تعتقد بدور الفرد في التاريخ وأخرى تعتقد به.
لكن بالنسبة للسياسي فإن دور الفرد في التاريخ وقدرته على تقرير مصيره ليسا مجرد فرضية، بل هما مسلمة إلزامية ومن دونها لا يكون سياسياً. من يمارس السياسة، يعتقد جازماً بأن ما يقوم به يؤثر في مجرى الأمور والحوادث، وإلا فلا معنى لما يقوم به. في اللحظة التي يشكك فيها السياسي فيقدرته على التأثير في مجرى الحوادث، علينا أن نسأله مباشرة: إذاً ما الذي تفعله هنا؟ ولماذا تدّعي أنك سياسي؟
القدرة على الفعل هي اعتقاد ضروري ولازم للسياسي، ومن دونه لا يكون سياسياً، مهما كان أثر هذا الفعل. في أسوأ الأحوال، قد يتوجب على السياسي أن يوازن بين السيئ والأسوأ، وهذه الموازنة نفسها قرار عليه أن يتخذه ويتحمل مسؤوليته. ما يحصل هو نتاج عمله وعليه أن يتحمل مسؤوليته التامة بصدده.
الكثيرون من سياسيينا يتصرفون وكأنهم مؤرخون. فما أن يفشلوا، حتى يبادروا بالتذرع بالعجز، وأن القوى الأخرى، التي قد تكون القوة العظمى أو الامبريالية أو الظروف التاريخية، كانت أقوى بكثير منهم وأنهم ما كانوا قادرين على فعل شيء حيالها. هذا نفي للمسؤولية ونكران للسياسي، فلو كانت هذه القوى أعظم منه، لتوجب عليه أن يأخذ قراره بعدم المواجهة والانسحاب. دوماً هناك إمكان لقرار السياسي، أياً يكن هذا القرار. اللحظة التي ينكر فيها السياسي مسؤوليته عما آلت إليه الأوضاع لأنها أقوى منه ولا يملك تجاهها شيئاً، ينكر فيها نفسه أيضاً كسياسي.
هذا النمط من السياسيين، الذين تنكروا لأنفسهم كسياسيين وادعوا أن الحوادث كانت أقوى منهم، متفادين تقديم محاسبة جدية عما قاموا به، عرفته الثورة السورية من المجلس الوطني إلى قيادات الائتلاف المتلاحقة وحتى لجنة المفاوضات. سياسيون دأبوا على إنكار أنفسهم كسياسيين عندما حانت لحظة المحاسبة.
[embed:render:embedded:node:27159]
ضرورة استقلال السياسي
خصم آخر للسياسي هو الأخلاقي، الذي يسعى إلى رد كل سؤال سياسي إلى سؤال أخلاقي، أرفع قيمة من السياسي ويشكل مرجعية عليا تقيد السياسي وتلزمه بالعودة إليها.
يعتبر الأخلاقي أن الخير والشر القيمتان الأساسيتان، وعليهما يجب أن يتأسس كل فعل سياسي. يعترض الأخلاقيون انطلاقاً من الحاجة إلى «تمثيل عادل وحقيقي» للسوريين والثوار في المفاوضات أو يشتكون من أن العالم غير أخلاقي تجاههم ويطالبونه الالتزام بقيم العدل الأخلاقي في سلوكه. بل ربما يرفض الأخلاقي السياسة كليةً بوصفها انحداراً بالأخلاقي، لأنها تلوثه بالمساومات السياسية الرخيصة التي تفترض تنازلات عما يعتبره عدلاً وحقاً.
«الدولة الإسلامية» أو «جبهة النصرة» هي أكثر تمثيلات الأخلاقي في علاقته بالسياسة تطرفاً، ولا تختلف في هذا المقام عمن يستدعي الأخلاقي باسم القيم الكونية. «الدولة الإسلامية» ليست تشوهاً للأخلاقي في علاقته بالسياسي، بل هي الحالة القصوى لإخضاع السياسي للأخلاقي وبغض النظر عن محتوى هذه الأخلاق. كلاهما، مقاتل الدولة الإسلامية أو المطالب بالعدل الكوني، يجعل من الأخلاق، وفق ما يفهمه منها، أساساً للسلوك السياسي وشارطاً له. هكذا تصبح الممارسة السياسية فرعاً من الممارسة الأخلاقية، إما أن تكون ممارسة أخلاقية أو غير أخلاقية، كما يصبح العدو غير أخلاقي وشريراً وليس مجرد عدو سياسي لا يفترض أن نكرهه، بل ربما علينا أن نجلس معه في مرحلة ما ونصافحه.
السياسي لا يواجه تناقضات أخلاقية، فليس عليه أن يختار بين الخير والشر، بل في أغلب الأحيان يكون خياره بين ما هو سيئ وما هو أسوأ، وعليه أن يحاور الشيطان ويتفق معه في كثير من الأحيان، وهذا ما يرقى إلى الجريمة أو التهاون في نظر الأخلاقي. ما على السياسي أن يقرره هو كيف يخوض الصراع وينتصر، أو كيف يتجنب الهزيمة إن لم يمكنه الانتصار.
يتوجب على السياسي أن يستفيد من الأخلاق ومن التاريخ، لكن إشكالية السياسي، القائمة على تحديد الصراع واتخاذ القرارات الحاسمة في شأنه، تبقى مستقلة بذاتها. استقلال لا يسمح بردّها إلى مجال الأخلاق أو التاريخ. في غياب استقلال السياسي لن نحظى بسياسيين، ومن يدعون أنهم سياسيون سرعان ما يتذرعون بالأخلاق أو بالتاريخ لتبرير فشلهم وعدم قدرتهم على تحمل مسؤولية أفعالهم.
استقلال السياسي هو الشرط الأول لتقديم نقد متسق للسياسي، نقد ومحاسبة ينتميان كذلك إلى مجال السياسي. الاعتراف باستقلال السياسي يعني أن السياسي لا يحتاج إلى شرعية خارجية من مجال آخر، كما أنه يبعدنا عن التعفف عن السياسة باسم ما هو أسمى وأهم منها. تعفف أظهره ثوار الربيع العربي ودفعوا ثمنه غالياً جداً بفشل ثوراتهم وضياع دماء رفاقهم.
موريس عايق
حقوق النشر: موريس عايق 2017
موريس عايق كاتب سوري مقيم في ألمانيا حصل على الماجستير في فلسفة التقنية والعلوم من جامعة ميونيخ.