مفطرون في "رمضان": مراهقة فكرية تشوّه العلمانية وتقوّض أركان الحرية
ما القيمة المرتجاة من التغنّي بالخمر، والمجاهرة بالإفطار في شهر رمضان، بذريعة أنّ الإفطار حريّة شخصيّة، وليس على الدين أن يُقيّد البشر، وأنّ على الدولة أن تضمن الحريات المدنية لمواطنيها من دون ضغط أو إكراه أو تضييق.
المعضلة ليست هنا أبداً. إنها في مكان وسياق مغايرين؛ فإنْ كنتَ تدعو إلى فكرة نبيلة، فمن المستحسن أن تجمع النّاس عليها، وتحبّبهم بها على قاعدة الآية الكريمة: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".
أما أن تخرج، أيها الليبرالي أو العلماني، على البشر، في مجتمع محافظ دينياً، شاهراً سيجارتك، وماضغاً علكتك، ومتباهياً بترنّحك، غير عابىء بمشاعر الصائمين، فهذا أشدّ ما يشوّه العلمانية والليبرالية، ويقوّض مشروع التنوير، ويؤكد أنّ من يفعل ذلك لا يفقه شيئاً عن جوهر العلمانية باعتبارها ضمانة لممارسة متكافئة للحرية لسائر الأفراد في المجتمع.
وتعكس بعض ردود أفعال من ينتسبون إلى التيارات الليبرالية والعلمانية، ضيق أفق في النظر إلى الحريات، وبخاصة الدينية منها. وثمة من يعتقد أنّ الإقرار أو الامتثال لما تمليه السلطة الدينية في مجتمع غالبيته المطلقة مسلمون، مثلاً، يعني التنازل لهذه السلطة عن الحرية الشخصية. وبالتالي يتوجب معاندة هذه السلطة من خلال القيام بأفعال استفزازية كالإفطار العلني في شهر رمضان، والاستخفاف بمشاعر الصائمين عبر تقصّد إيذائهم بالتدخين أو الطعام والشراب في الأماكن العامة، والهزء بطقسهم الديني، ووصفه بأنه "مجرد جوع لا طائل منه"!
الحرية الشخصية لا تطبق على أنقاض حرية الآخر
وتكشف هذه التصورات سطحية وضحالة في النظر إلى الحرية، ويصدر أصحابها عن وهم بأنّ الحرية الشخصية لا تتم إلا على أنقاض حرية الآخر. فالعقل الإقصائي لدى بعض الليبراليين والعلمانيين يضيق بالآخر المختلف، ويود الإلقاء به في البحر، ليتخلص من عبء مزاحمته في الفضاء العام، وهو إذ يفعل ذلك فإنه يتخلّص من أهم ما يعتنقه: التسامح، التعايش، احترام الحقوق المتساوية والمتكافئة للجميع، وتوقير الحساسيات الدينية، مراعاة الوجدان الجمعي...
وليس في مراعاة الليبرالي أو العلماني للتقاليد الدينية من سلوك وشعائر وزي في مجتمع يدين أفراده بالإسلام مثلاً، أيّ ارتهان لسلطة فئة دون سواها. وحتى لو كانت الغلبة، عدداً وعدة وجهوزية، هي لمصلحة الطرف الآخر، فذلك ليس معناه أن أناصبه العداء. فالحرية في المجتمعات المتمدنة تتسع لسائر المختلفين، والديمقراطية كفيلة بأن تكون الفيصل في النزاعات ما دام الناس يخضعون لآلياتها. ومن حق الفرد في تلك المجتمعات أن يمارس ما يحلو له من دون تجاوز القانون.
بيْد أن تلك الصورة المتبلورة في السياقات الاجتماعية والثقافية للعالم المتمدن، لا يجوز إسقاطها بقضّها وقضيضها على المجتمعات العربية، والمطالبة بأن يتمّ التعامل مع المفطر في عمّان أو القاهرة كالمفطر في روما أو باريس، وتلك أغلوطة لا ينفك يرتهن إليها بعض الليبراليين والعلمانيين الذين يريدون تفكيك المجتمع وتثويره وتخليصه من إرثه الديني ووضعه على سكة الدولة المدنية برمشة عين.
ويصدر بعض أولئك الليبراليين والعلمانيين عن "مراهقة فكرية" حينما يتعالون على أصحاب الحساسيات الدينية والنفسية على اعتبار أنّ هؤلاء أدنى مرتبة منهم، وبالتالي فإنّ هذا في زعمهم ذريعة لازدراء عباداتهم والهزء منها.
الفريق الأول يعبر عن رغبته في تفكيك وجدان الفريق الثاني. وإذ يفعل ذلك لا يرى غير السخرية من عقائد الفريق الثاني وتحديها والارتطام بما استقر في الذاكرة الشعبية الدينية باعتباره مقدّساً. وهذا الارتطام يتخذ شكل التحدي، وإعلان الكراهية للدين، والتحرّش بشعائر الصوم عبر انتهاكها في المجال العام، بحجة أنّ الآخر المتدين لا يحترم حساسيات الطرف الأول، ولا يفسح له المجال كي يمارسها بحرية، ومعنى الحرية هنا أن يأكل الليبرالي أو العلماني جهاراً نهاراً في الشارع والفضاء العام، حتى لو لم يكن مضطراً للأكل والشرب والتدخين. المهم هو استفزاز الوجدان الديني وتهشيمه بدعوى الحرية، ومن دون أيّ وعي أو مسؤولية أخلاقية.
لا يتعامل أولئك العلمانيون والليبراليون بالمنطق التدريجي في تغيير الوجدان الجمعي، ولا يتوسلون بالحسنى مع الآخر حتى لو كان مغايراً. إنهم يأخذون من الآخر أبشع ما فيه: إقصائيته، عنفه، انغلاقه، نزعته الاستئصالية، واحتماءه البراغماتي بالمقدّس. ويصدّرون للآخر أبشع ما في الكراهية من عتمة: الازدراء، التعالي، الارتطام باليقينيات الشعبية، انعدام الرحمة وفقدان التسامح.
لذا في غمرة ذلك كله، لا غرو أن تكون صورة الليبرالي والعلماني في المجتمعات العربية ملتصقة بالكفر والإلحاد، والتحلّل الأخلاقي، والفساد الاجتماعي، والانتهازية، والإدمان على المخدرات والكحول، والتفكّك العائلي، والخيانات التي تجري مجرى الماء في نهر يسيل بلا مصبّ أو ضفاف!
موسى برهومة
حقوق النشر: قنطرة 2017
موسى برهومة كاتب وصحفي وأكاديمي يعمل حالياً أستاذاً للإعلام في الجامعة الأمريكية في دبي، له عدّة مؤلفات وهو يكتب لعدة صحف عربية.