لا سلام من دون وحدة وطنية فلسطينية
باءت المحاولة التي بذلها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري من أجل تسوية الصراع في الشرق الأوسط بالفشل. إذ لم يتم التوصّل إلى معاهدة السلام المطلوبة في الأصل بين إسرائيل والفلسطينيين، ولا حتى إلى مجرَّد "اتّفاقية إطارية"؛ زد على ذلك أنَّ الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية لم تبلغا هذا الحدّ من التباعد في مواقفهما منذ بداية عملية السلام.
يعود سبب ذلك، على الجانب الإسرائيلي، في المقام الأوّل إلى أنَّ الحكومة الإسرائيلية صارت راسخة أكثر من أي وقت مضى في طيف اليمين: فمنذ الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وحتى الآن بات المتشدّدون في أقوى كتلة سياسية - أي في المعسكر اليميني بزعامة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والمستوطنون في حزب "ها بيت ها يهودي" (البيت اليهودي)، الطرف الأقوى في الحكومة الإسرائيلية. ومعهم لا يمكن تصوّر الوصول إلى حلّ وسط.
وهذا أدى إلى إضعاف أكثر للقيادة الفلسطينية. كما أنَّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس لم يعد يتمتّع على أية حال بالشرعية السياسية، فقد صار يحكم منذ عام 2009 تقريبًا بموجب قانون الطوارئ. وتم إجراء آخر انتخابات فلسطينية في شهر كانون الثاني/يناير 2006 - وفازت في تلك الانتحابات حركة حماس؛ منذ ذلك الحين لم يتم إجراء أية انتخابات برلمانية أو رئاسية رسمية. والآن، وبعد تسعة أشهر من المفاوضات مع إسرائيل، يقف محمود عباس خالي اليدين.
هذه هي خلفية الاتّفاق المفاجئ من أجل المصالحة الفلسطينية الداخلية، الذي يحمل اسم "اتّفاق الشاطئ"، أي اسم مخيم اللاجئين الفلسطينيين الذي ينحدر منه رئيس وزراء حكومة حماس الحاكم في غزة، إسماعيل هنية. يأتي هذا الاتّفاق كمحاولة لتخليص الرئيس محمود عباس وحركته المُصابَة فتح.
الانقسام وآثاره السلبية على الفلسطينيين
وفي الواقع يبدو الأمر أسوأ بكثير لدى حركة حماس الحاكمة في قطاع غزة. فقد فقدت أهم حلفائها بعد الانقلاب العسكري في مصر على الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى إقدام الحكومة العسكرية الجديدة في مصر على قطع شريان الحياة عن قطاع غزة، وذلك من خلال تدميرها اقتصاد الأنفاق. ومنذ ذلك الحين تعاني غزة من حصار مزدوج، ذلك لأنَّ إسرائيل أيضًا لا تسمح بنقل البضائع والأشخاص من وإلى قطاع غزة إلاَّ بشكل محدود للغاية.
من جانبها تمضي حركة حماس بصورة سلطوية وقمعية في تطبيق جدول أعمالها الإسلامي المحافظ، الأمر الذي أفقدها الكثير من شعبيتها. ولكنها قبل كلّ شيء تعاني من نقص في المال من أجل دفع رواتب موظفي دوائرها في قطاع غزة، كونها لا تتمتّع بسلطة الحزب الحاكم الملتزم بتحقيق رفاهية المواطنين.
إنَّ الانقسام القائم منذ المواجهة العنيفة بين حركتي فتح وحماس في عام 2007 يأتي بنتائج سلبية بالنسبة للفلسطينيين من جميع النواحي. كذلك أصبح الفصل المكاني بين قطاع غزة والضفة الغربية متقدمًا إلى حدّ بعيد، ونادرًا ما تسمح إسرائيل بالسفر بين كلا المنطقتين. وأمَّا الحديث الذي يدور حول قطاع غزة باعتباره "حماسِسْتان" والضفة الغربية باعتبارها "فتح لاند" فهو خطير للغاية، وذلك لأنَّ الأراضي الفلسطينية المحتلة تمثِّل وفقًا للقانون الدولي وحدة واحدة تتكوَّن من قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.
لقد ازداد التباعد وأصبحت الجروح عميقة بعد المواجهات العنيفة وتبادل الاتّهامات. كذلك فشلت العديد من الاتّفاقيات بين الحركتين، على الرغم من وجود تأييد ساحق للمصالحة بين المواطنين الفلسطينيين.
لا سلام في الشرق الأوسط من دون المصالحة بين حماس وفتح
من المفترض الآن تشكيل "حكومة تكنوقراط" جديدة، لا يوجد فيها أعضاء في أحزب. وعلى الرغم من أن حماس ترفض الاعتراف الرسمي بإسرائيل، إلاَّ أنَّ الرئيس محمود عباس أعلن أنَّ هذه الحكومة ستقبل بالشروط الثلاثة التي وضعتها اللجنة الرباعية في عام 2007: أي الاعتراف بدولة إسرائيل وقبول جميع الاتّفاقيات السابقة بين إسرائيل وفلسطين وكذلك التخلي عن العنف. وبعد ستة أشهر، من المفترض حينئذ وللمرة الأولى إجراء انتخابات حرة في فلسطين. ولكن لا يزال من غير المعروف إن كان ذلك سيتم بنجاح. حيث تعترض ذلك مصالح الطرفين الخاصة، وكذلك من الممكن أن تمنع إسرائيل إجراء انتخابات في القدس الشرقية.
أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي أنَّه لن يستمر في التفاوض إذا كانت هناك حكومة مدعومة ممن وصفهم بـ "إرهابيي حماس"، الذين يريدون، بحسب تعبيره، تدمير إسرائيل. وكلامه هذا قليل المصداقية: لأنَّ إسرائيل قد تفاوضت في الماضي مع حركة حماس. وكذلك لم تعد حركة حماس تلك المنظمة الإرهابية، التي أفشلت عملية أوسلو بتفجيرات انتحارية مروعة في إسرائيل.
فمنذ حرب غزة في عام 2012 باتت حماس تبذل بعض الجهود للتقليل من إطلاق الصواريخ من قِبَل مجموعات متطرّفة أخرى مثل حركة الجهاد الإسلامي، والالتزام بالهدنة المتّفق عليها مع إسرائيل. وبالإضافة إلى ذلك فهي لم ترفض محادثات كيري، بل طالبت بأن يتم تقديم اتّفاق محتمل للفلسطينيين من أجل التصويت عليه. زد على ذلك أنَّ العديد من قادة حماس قبلوا على الأقل بشكل غير مباشر بحدود العام 1967، وبالتالي فقد قبلوا بحلّ الدولتين.
الاتّحاد الأوروبي والولايات المتَّحدة الأمريكية شركاء في تحمّل المسؤولية
يتعيَّن على الاتّحاد الأوروبي مطالبة أكبر فصيلين فلسطينيين (حركتي حماس وفتح)، وكذلك أيضًا مطالبة إسرائيل، بتنفيذ اتّفاق المصالحة. ففي آخر المطاف يتحمّل كلّ من الاتّحاد الأوروبي والولايات المتَّحدة الأمريكية جزءًا من المسؤولية عن التطوّرات الكارثية بعد انتخابات عام 2006، التي أشاد بها العالم باعتبارها انتخابات نزيهة وديمقراطية، ليمتنع بعد ذلك عن الاعتراف بالفائز في تلك الانتخابات، أي بحركة حماس؛ وهكذا استطاع الإسلاميون في حركة حماس الظهور بصورة الشهداء السياسيين.
وفي تلك الأيَّام قامت الولايات المتَّحدة الأمريكية بتسليح قوّات الأمن في الضفة الغربية - من أجل محاربة حركة حماس ودحرها. لقد تم قمع هذا الحزب الإسلامي بوحشية في الضفة الغربية، وكذلك اختفى العديد من سياسيي حركة حماس، من ضمنهم نوَّاب برلمانيون منتخبون، من دون محاكمات في السجون الإسرائيلية. لقد فشلت سياسة الحصار المفروض على قطاع غزة: فحركة حماس لا تزال تحكم حتى يومنا هذا. ويدفع ثمن هذا الحصار السكّان الذين يعيشون هناك البالغ عددهم نحو مليون وسبعمئة ألف نسمة معظمهم من الشباب.
الفرصة الأخيرة للمصالحة الفلسطينية الداخلية؟
وصلت انتهاكات حقوق الإنسان والنزعات السلطوية المتزايدة في الضفة الغربية إلى مستوى مقلق، تمامًا مثلما هي الحال في دولة حماس البوليسية في قطاع غزة. وهنا تمثّل عملية المصالحة السبيل الوحيد من أجل الجمع من جديد بين الأراضي الفلسطينية المنقسمة وإيجاد تمثيل سياسي شرعي. وفي هذه المرة ينبغي ألاَّ يقتصر الدعم الدولي على إجراء الانتخابات فقط.
فعملية المصالحة تحتاج شروطًا مرجعية: إذ يجب أن تكون حرية التنقّل مضمونة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك يجب توحيد قوّات الأمن والأجهزة الإدارية، وعلاوة على ذلك يجب أن يتم إشراك المجتمع المدني. وكهدف بعيد لا بدّ من السعي إلى ضمّ حركة حماس إلى منظمة التحرير الفلسطينية، التي تعتبر الممثّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
صحيح أنَّ مخاطر الفشل كبيرة جدًا. ولكن قد تكون هذه هي الفرصة الأخيرة من أجل تحقيق المصالحة الفلسطينية الداخلية. ولذلك يجب على أوروبا تقديم الدعم لهذه العملية. فمع استمرار الانقسام بين الفلسطينيين وأراضيهم، لا يوجد أي أمل في تحقيق السلام.
رينيه فيلدأنغل
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014
رينيه فيلدأنغل مؤرخ ألماني وخبير في شؤون الشرق الأوسط، ولد عام 1973، يعمل مديرًا لمكتب مؤسّسة هاينريش بول الألمانية في رام الله المقرَّبة من حزب الخضر.